القراض أو المضاربة المشتركة
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن المضاربة أو القراض من العقود المركبة، فهي عقد مؤلف من: إيداع ووكالة وشركة، وقد تنتهي إلى غصب أو إجارة فاسدة، قال الحصكفي: (وحكمها -أي المضاربة- أنواع، لأنها إيداع ابتداء، ... وتوكيل مع العمل لتصرفه بأمره، وشركة إن ربح، وغصب إن خالف وإن أجاز رب المال بعده لصيرورته غاصبا بالمخالفة، وإجارة فاسدة إن فسدت، فلا ربح للمضارب حينئذ، بل له أجر مثل عمله مطلقا، ربح أو لا بلا زيادة على المشروط ...)
والمضاربة مشروعة استحسانا على خلاف القياس لدى أكثر الفقهاء، لما فيها من الجهالة في الأجرة والعمل، ودليل مشروعيتها السنة، والإجماع، والمصلحة، ولهذا فإن الفقهاء لا يتوسعون فيها، لأن ما ثبت على خلاف القياس لا يتوسع فيه.
والمضاربة من أهم طرق استثمار المال قديما وحديثا، وقد كثرت الحاجة إليها وبرزت أكثر -على أنها أفضل طرق الاستثمار- حديثا بعد ظهور المؤسسات المالية الإسلامية التي ملأت الساحة في العالم كله، الإسلامي والعربي والأجنبي، وأثبتت قدرتها على مضاهاة المؤسسات الربوية وتفوقها عليها، بعد ما كاد يعم بين الناس أن الربا هو الحل الوحيد لمشكلات الاستثمار المالي.
إلا أن المضاربة التي ظهرت على الساحة حديثا فيها بعض المخالفات للمضاربة التي عرفها الفقهاء قديما وأثبتوا شرعيتها على خلاف القياس، في كثير من أنواعها، وبالتالي آثارها أيضا.
فقد كانت المضاربة تنشأ غالبا بين شخصين، الأول صاحب المال، ويسمى (رب المال)، والثاني العامل، وهو(المضارب)، أما الآن فقد أصبح يقوم بالمضاربة مؤسسات مالية شامخة، تتألف من العديد من الشركاء، والكثير من الموظفين، فتقوم بقبول الودائع من كثير من أرباب الأموال -الذين لا يستطيعون إدارة أموالهم بأنفسهم- بقصد استثمارها لهم، على أسس إسلامية، ومشاركتهم في أرباحها، بطريق المضاربة مع تجار أو أصحاب مهن أو مزارعين، أو بطريق التجارة المباشرة، أو غير ذلك من المعاملات الإسلامية، مما أطلق عليه المضاربة الجماعية، أو المضاربة المشتركة.
وقد اقتضى هذا التغيير في أنواع المضاربة وأطرافها إدخال بعض التغييرات في آثارها وأحكامها، وهذا كله يحتاج إلى دراسة وتأصيل وتخريج على قواعد الفقهاء التي وضعوها للمضاربة الفردية، مستهدين في ذلك بنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة، والقواعد الفقهية الكلية التي تحكم المعاوضات بعامة، والمشاركات منها بخاصة.
وقد قام العديد من الفقهاء المعاصرين بدراسات قيمة في هذا النطاق، وقدموا أفكارا ودراسات قيمة فيه، إلا أن الباب لا زال مفتوحا لإتمام الدراسة، لأنها لم تتم بعد، ولا زالت هنالك عقبات ينبغي أن تذلل، وأمور ينبغي أن تبحث ويبحث لها عن مخارج في نصوص القرآن والسنة وأقوال الفقهاء وقواعدهم، وهذا البحث حلقة في سلسلة هذا النطاق، ولا أدَّعي أنه خاتمة المطاف، وأنه جاء بكل الحلول المطلوبة، أو أنهى كل المشكلات التي تعترض الباحثين، ولكنه خطوة في هذه الدراسات، وسوف تتبعها حلقات أخرى إن شاء الله تعالى، حتى ينضج البحث، وتتضح معالم المضاربة الجماعية أو المشتركة، وتتبدى للجميع ظاهرة التخريج على ما أجمع عليه الفقهاء، أو ما انتهى إليه عامتهم، أو أصحاب المذاهب المعتمدة منهم، أو واحد على الأقل منهم ممن يجيز الجميع تقليده والأخذ برأيه لعلمه وتقواه من الأئمة الأعلام.
ولا يخفى أن الأمر صعب، والمرتقى فيه وعر، لكثرة الاختلافات فيه، وتعدد الشبهات، مما يصعب أو يبعد معه الوصول إلى إجماع أو اتفاق، ولهذا فإن بحوث جميع المعاصرين كانت تجري على محاولات التوفيق والتلفيق بين آراء الفقهاء، وهو وإن كان منهجا غير مقبول في أمور العبادة أو المعاملات الفردية، إلا أنه المنهج الوحيد المتاح في هذا الأمر الجماعي، الذي كثرت الحاجة إليه في العصر الحاضر، حتى عد إغلاقه معنتا وملحقا حرجا كبيرا بالمسلمين، سواء كانوا أرباب أموال أوعمالا، والله سبحانه وتعالى يقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). وهو المنهج الذي سوف أسير عليه في بحثي هذا، مستلهما من الله تعالى التسديد والمعونة.
وإنني سوف أعرض أولا تعريف المضاربة الفردية، وشروطها وأركانها وأحكامها، كما عرضها الفقهاء، بإجمال، مع بيان مواضع الاتفاق والاختلاف بينهم في ذلك، ثم أعرض تعريف المضاربة الجماعية أو المشتركة، وأنواعها، ثم أبيِّن أهم الفروق التي بين هذين النوعين من المضاربة، ثم أحاول بيان مدى تأثير هذه الفروق على صحة المضاربة المشتركة، بحسب قواعد الفقهاء ونصوصهم قدر الإمكان، مستفيدا من نقاط الاتفاق والاختلاف بينهم في المضاربة الفردية، ومحاولا التلفيق بين هذه المذاهب والأقوال قدر الإمكان، تحقيقا لمصلحة تصحيح هذه المضاربة الجماعية أو المشتركة شرعا قدر الإمكان، تيسيرا على المسلمين في معاملاتهم، وأرجو من الله تعالى التوفيق والسداد.
ويسعدني أن بحثي هذا معروض أمام نخبة من فقهاء المسلمين، لتسديده أو تصحيحه أو إقراره، وفي ذلك الخير الوفير للمسلمين، والتسهيل عليهم في أمورهم ومعاملاتهم.
والله تعالى من وراء القصد وهو المستعان، وهو أجل وأعلم.
تعريف المضاربة الفردية
المضاربة في اللغة: مفاعلة من الضرب في الأرض، وهو السير فيها، وضارب له اتجر في ماله . وفي اصطلاح الفقهاء: هي عقد يعطي بموجبه إنسان شيئا من ماله لإنسان آخر ليتجر فيه على أن يكون الربح بينهما على نسبة يتفقان عليها في العقد.
هذا ملخص ما عرَّف به الفقهاء المضاربة، وإن تعددت ألفاظهم فيه، إلا أن معناها لم يخرج عن ذلك .
وتسمية هذا العقد بالمضاربة، هو اصطلاح أهل العراق، وهو ما اختاره الحنفية والحنبلية، ويسميه أهل الحجاز قراضا، وهو ما اختاره المالكية والشافعية، والمعاصرون من الفقهاء يستعملون الاثنين معا.
مشروعية المضاربة الفردية:
اتفق الفقهاء على مشروعية المضاربة أو القراض، وعامتهم على أنها مشروعة استحسانا على خلاف القياس كما تقدمت الإشارة إليه، وأن مشروعيتها مستندة إلى السنة القولية والتقريرية والإجماع والمصلحة الحاجيَّة أو الضرورية، وهناك إشارات في القرآن الكريم إلى مشروعيتها من غير نص، من ذلك قوله تعالى (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ).
وأما السنة القولية فما رواه البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه من أنه كان إذا دفع مالا مضاربة اشترط على صاحبه أن لا يسلك به بحرا ولا ينزل به واديا ولا يشتري به ذات كبد رطبة، فإن فعل فهو ضامن، فرفع شرطه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه) .
وأما السنة التقريرية، فهي ما ثبت من أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث والناس يتعاملون بالمضاربة فلم ينكر عليهم، فكان ذلك تقريرا منه صلى الله عليه وسلم لمشروعيتها.
وأما الإجماع، فهو ما روي عن عدد من الصحابة أنهم دفعوا مال اليتيم مضاربة، منهم عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبيد الله بن عمر وعائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهم، ولم ينقل عن أحد من أقرانهم أنه أنكر عليهم ذلك، ومثله يكون إجماعا، وعليه تعامل الناس من زمن الصحابة إلى يومنا هذا من غير نكير.
وأما المصلحة، فلأن كثيرا من أصحاب الأموال لا يعرفون طرق استثمارها، وأن كثيرا من الخبراء في ذلك لا أموال عندهم، والمصلحة تقتضي مشاركة الطرفين، وهي مصلحة ضرورية لدى البعض وحاجيَّة في نظر غيرهم.
وكل ذلك استحسان يترك به القياس.
أطراف المضاربة
أطراف المضاربة باتفاق الفقهاء هم: رب المال، والمضارب، ورأس مال المضاربة، وعمل المضارب، والربح الذي يتحقق فيها، وصيغة المضاربة. وقد عد أكثر الفقهاء هذه الأطراف كلها أركانا للمضاربة، وعد الحنفية الصيغة وحدها الركن، والباقي أطرافا، وهذا الاختلاف اصطلاحي شكلي لا يمس جوهر الموضوع.
شروط المضاربة:
تتوزع هذه الشروط على الأطراف، كما يلي:
1 - يشترط في صيغة المضاربة ما يشترط من الشروط في صيغ عامة العقود الأخرى، وقد اشترط الحنفية، وجمهور المالكية، والشافعية في الأصح، في صيغتها أن تكون باللفظ (الإيجاب والقبول)، وأجاز الحنبلية، والشافعية في القول الثاني، انعقادها باللفظ وبالفعل، وقال بعض المالكية تنعقد بقول أحدهما ورضا الآخر بها من غير قول، إذا توفرت القرينة على ذلك .
2 - ويشترط في العاقدين -رب المال والمضارب- كمال الأهلية، وحرية التصرف في المال، هذا بشكل عام، وهناك تفصيلات جزئية اتفق الفقهاء في بعضها واختلفوا في بعضها الآخر، مثل المفلس، والمريض مرض الموت، وغير ذلك، تعرف في كتبهم .
3 - ويشترط في رأس المال شروط، أهمها:
آ)- أن يكون من الدراهم أو الدنانير، ويدخل في ذلك الآن سائر العملات، لأنها تأخذ حكمها لدى عامة فقهاء العصر، بل هي بدل عنها.
واختلفوا في العروض، فذهب الجمهور منهم إلى أنه لا يصح أن تكون رأس مال في المضاربة، وعن أحمد رواية أخرى بصحة المضاربة في العروض، وتجعل قيمتها وقت العقد رأس مال المضاربة. إلا أنه لو قال رب المال للمضارب: بع هذه العروض واعمل بثمنها مضاربة، فباعها بدراهم أو دنانير وتصرف فيها جاز عند الحنفية، وقال المالكية: إن قال له بعه واجعل ثمنه رأس مال، فمضاربة فاسدة .
(ب)- أن يكون رأس المال معلوما للعاقدين جنسا ونوعا ومقدارا، فلو كان مجهولا لم تصح .
ج) - أن يكون عينا لا دينا في الذمة، فإن كان دينا في الذمة لم تصح المضاربة لدى جمهور الفقهاء، وذهب بعض الحنبلية إلى جوازها بالدين على العامل، وذهب الحنفية إلى أنه لو قال رب المال للمضارب اقبض ما لي على فلان من الدين واعمل به مضاربة جاز .
د) - كون رأس المال مسلما للمضارب، فلو شرط رب المال على المضارب أن يعمل معه فيه لم تصح المضاربة، وهو مذهب الجمهور، وذهب الحنبلية في المذهب إلى أنه لو اشترط عليه عمله معه صحت وكانت مضاربة .
هـ) – ويشترط في الربح أن يكون نسبة شائعة معلومة لكل من الطرفين، ولا يجوز أن يُشرط لأحدهما مبلغ محدد وإن قل، ولا يُشرط ربح لغير العاقدين .
4 - أما ما يتعلق بالعمل من العامل من الشروط عند الإطلاق، فهو منوط بما تعارف الناس فعله في عرف التجار، وهناك أمور لا تلزمه إلا إذا نص عليها في العقد، وأمور لا يصح اشتراطها عليه، وهي مفصلة في كتب الفقهاء.
هذه شروط صحة المضاربة المفردة بإجمال، فإذا فقدت المضاربة واحدا منها فسدت.
والمضاربة الفاسدة بوجه عام تنقلب إلى إجارة فاسدة، فيكون الربح فيها لرب المال وحده، والخسارة عليه، ويكون للعامل أجر مثله.
هذا تعريف المضاربة الفردية وأركانها وشروطها بإجمال.
المضاربة الجماعية أو المشتركة
أما المضاربة الجماعية أو المشتركة فلها ثلاث صور، هي:
الأولى أن يكون رب المال واحدا والعامل متعددا، كأن يضارب لرب المال جماعة من الخبراء في إدارة المال واستثماره، ويعملوا فيه مجتمعين، ويكون لهم نصيب معين مشاع من الربح يقتسمونه بينهم، أو يضارب لرب المال واحد ويأذن رب المال له بالاستعانة بغيره، فيتفق المضارب مع واحد أو أكثر ليعملوا معه في هذا المال، ويكون لهم معه نصيب معين من الربح.
والثانية أن يكون المضارب واحدا ويكون أرباب الأموال متعددين، كأن يضارب لرب المال عامل، ثم يأتي رب مال آخر فيضارب له العامل ذاته، ثم يأتي رب مال ثالث ورابع... فيضارب لهم جميعا هذا العامل، على أن له نسبة معينة من ربح هذه الأموال، ثم قد يكون ذلك منهم جميعا في عقد واحد، أو على التتابع في عقود مختلفة، وقد يكون ذلك كله قبل عمل المضارب في المال الأول، أو بعده أوأثناء عمله فيه.
والثالثة أن يكون كل من رب المال والعامل متعددين.
هذه الصور الثلاث من المضاربة المشتركة أو الجماعية طرحها العصر الحاضر على بساط الاستثمار المالي الإسلامي، بديلا عن الاستثمار الربوي الذي انتشر في العالم، وعم وطم البلدان الإسلامية وغيرها، حتى ظن البعض أن لا بديل عنه.
فأما الصورة الأولى، وهي تعدد العمال ورب المال واحد، فليست هي المرادة في بحثنا هذا، وعلى كل فأمرها هين، لأنها قريبة جدا من المضاربة الفردية، وفيها عامة خصائصها، وليس صعبا قياسها عليها، والحكم بمشروعيتها، وإلحاقها بها في أحكامها.
وأما الصورتان الثانية والثالثة، فهما محل الدراسة، بل إن الصورة الثانية هي المعنية بالدراسة أولا، لأنها هي المطبقة في المؤسسات الاستثمارية الإسلامية، دون الثالثة، وهي المعنية في ندوتنا هذه.
وذلك لأن صعوبات كثيرة تثور أمام شرعية هاتين الصورتين من المضاربة الجماعية أو المشتركة، لعدم ورود نص شرعي من كتاب أو سنة على شرعيتهما، وصعوبة قياسهما على المضاربة الفردية التي تقدم تلخيص تعريفها وأحكامها، لمخالفتهما لها في بعض الأمور.
وقد قام كثير من الباحثين والفقهاء المعاصرين ببعض الدراسات في هذا المجال محاولين تلمس الطرق الشرعية لإباحتهما، وأغلب الباحثين نحى منحى قياسهما على المضاربة الفردية، وبيان أن الفوارق الجوهرية بين هاتين الصورتين من المضاربة الجماعية وبين المضاربة الفردية غير مؤثرة، وبالتالي تكون المضاربة الجماعية بالصورتين السابقتين مباحة قياسا على المضاربة الفردية، وهو ما سوف نوجه الدراسة إليه في هذا البحث إن شاء الله تعالى.
وصف موجز مبسط
وإنني سوف أقدم وصفا موجزا مبسطا لهذه الصورة الثانية -محل الدراسة- من المضاربة الجماعية أو المشتركة، وفق ما يجري عليه العمل فيها في المؤسسات الاستثمارية الإسلامية بعامة، كما يلي:
1 - يقوم عدد من أصحاب الأموال بوضع كل منهم جزءا معينا من أمواله -دفعة واحدة أو على دفعات متعددة متلاحقة- في مؤسسة استثمارية إسلامية من أجل استثمارها لهم بالطرق الشرعية، على أن يكون لهم جزء شائع معين من أرباحها، كالنصف أو الثلثين... ويكون باقي الربح للمؤسسة الإسلامية المستثمِرة، فإذا حصلت خسارة كانت على أرباب الأموال خاصة.
2 - تقوم المؤسسة الإسلامية -وقد يسميها البعض بنكا إسلاميا- بخلط هذه الأموال فور وصولها إليها بعضها مع بعض، وربما خلطتها بأموالها هي أيضا، ثم تقوم باستثمار هذه الأموال -فور وصولها إليها أو بعد فترة من الزمن بحسب الفرص المتاحة أمامها للاستثمار- بالطرق الاستثمارية الإسلامية، ومنها دفعها لبعض أصحاب الحرف أو التجار ... على سبيل المضاربة الفردية، كل منهم على حدة.
3 - تحسب هذه المؤسسة الإسلامية أرباحها في نهاية كل عام بطريق التنضيض الحكمي أو التقديري، بإحصاء ما هو موجود لديها من أموال، بما فيها ما استردته ممن قامت بالمضاربة معه من التجار وأهل الحرف وغيرهم، مع حصتها من الأرباح التي تسلمتها منهم، بعد خصم النفقات منها.
4 - ثم تقوم المؤسسة باقتطاع حصتها من هذه الأرباح، وهي النسبة المبينة في عقد المضاربة المشتركة مع أصحاب الأموال، وما بقي من الربح وهو حصتهم منه تسلمه إليهم بحسب مقدار رأس مال كل منهم لديها والزمن الذي بقي فيه رأس المال هذا لديها، فإذا لم تتوفر أرباح لم تأخذ شيئا، ولم توزع على أرباب الأموال شيئا، فإذا حصلت خسارة لم تأخذ هي شيئا من هذا المال، وخصمت مقدار الخسارة من رأس مال كل من المتعاملين معها من أرباب الأموال، بما يناسب حصته من رأس المال مع الزمن الذي مضى على بقاء المال فيه عندها. وإن كان انعدام الربح أو الخسارة لم يحصل أي منهما في المؤسسات الإسلامية إلى اليوم -بحسب علمي- بسبب حصافة القائمين على إدارة هذه المؤسسات، واتخاذهم الاحتياطات المناسبة، والحذر المناسب، في إدارة هذه الأموال واستثمارها.
5 - يحق لكل رب مال أن يسحب رأس ماله كله أو بعضه في أي وقت شاء قبل نهاية السنة أو بعدها، ولكن مع تغيير نسبة استحقاق الربح من (وديعة) إلى (حساب استثماري).
6 - إذا تلفت هذه الأموال، أو تلف بعضها، بدون تقصير من القائمين على المؤسسة الاستثمارية الإسلامية، خصم مقدار هذا التلف من أرباح المال، وعدَّ من الخسارة، فإذا كان التلف نتيجة خطأ من القائمين على المؤسسة، تحملت المؤسسة وحدها مقدار هذا التلف، وقامت بتعويض أرباب الأموال عنه من مالها الخاص.
هذه هي الخطوات التي تمرُّ بها المضاربة الجماعية أو المشتركة لدى عامة المؤسسات المالية الاستثمارية الإسلامية.
التكييف الفقهي لعقد المضاربة المشتركة
يشتمل هذا العقد (المضاربة الجماعية أو المشتركة)على أطراف ثلاثة: الأول أصحاب الأموال، والثاني المؤسسة الاستثمارية الإسلامية، والثالث التجار المتعاملون مع المؤسسة الإسلامية، الذين يقومون فعلا بتنمية هذه الأموال.
فأما العلاقة بين المؤسسة الإسلامية وبين التجار المتعاملين معها، فهي علاقة مضاربة فردية باتفاق عامة الفقهاء المعاصرين، وهي مشروعة بالاتفاق كما تقدم، ولهذا فلا داعي للتعرض لها هنا بالدراسة.
فأما العلاقة بين المؤسسة الإسلامية وأصحاب الأموال، فهي المختلف فيها، وهي محل الدراسة..
وفي سبيل الوصول إلى بيان حكم هذا العقد: (المضاربة الجماعية أو المشتركة) لابد من تبين طبيعة هذا العقد، وتكييفه الفقهي، وقد تعرض الفقهاء المعاصرون لهذا الموضوع، واختلفوا فيه على آراء:
1- اتجه أكثر المعاصرين من الباحثين والفقهاء إلى أن المضاربة المشتركة على النهج المتقدم هي مضاربة فردية مطوَّرة، بين أرباب الأموال والمؤسسة المالية الإسلامية، حيث يقوم أرباب الأموال مقام رب المال في المضاربة الفردية، وتقوم المؤسسة الإسلامية مقام العامل المضارب، ويعطى كل طرف حكمه فيها، ولا تتميز عنها إلا ببعض الفوارق غير المؤثرة، ثم حاول هؤلاء الفقهاء دراسة هذه الفوارق، وبيان عدم التأثير فيها في صحة المضاربة.
2 - واتجه آخرون إلى أن أصحاب الأموال شركاء للمؤسسة الإسلامية، والعقد بينهما فيها عقد شركة أموال، وليس عقد مضاربة، حيث إن المؤسسة تضيف أموال أرباب الأموال إلى أموالها، وتخلطها معها، وتتجر بالجميع معا، ثم تقتسم الربح بينها وبينهم.
3 - واتجه فريق ثالث إلى أن العلاقة بين أرباب الأموال والمؤسسة الإسلامية علاقة إجارة، فأرباب الأموال مستأجرون، والمؤسسة أجير مشترك يدير المال لهم بأمرهم، بمقابل ما يأخذه منهم من حصة في الربح.
ولكل من هذه التكييفات مناطات شرعية مقبولة تدعو لتصحيحه وترجيحه، ومآخذ شرعية تقتضي بطلانه.
وسأقوم بدراسة كل اتجاه باختصار، موجها النظر إلى ماله وما عليه، بحسب الأدلة والقرائن، ثم أبين الراجح عندي منها.
فالاتجاه الثاني –كما تقدم- يذهب إلى أن العلاقة في المضاربة المشتركة بين أرباب الأموال والمؤسسة الاستثمارية الإسلامية هي علاقة شركة عنان، حيث يدفع أرباب الأموال للشركة أموالهم، وهي تقوم بضمها إلى أموالها، ويكون الربح بينهما بنسبة شائعة يتفقان عليها، وهذا كله من علامات شركة العنان، فتكون على ذلك مشروعة مثلها، وتطبق فيها أحكامها.
إلا أنني أرى أن هنالك أمورا في المضاربة المشتركة تحول دون صحة قياسها على شركة العنان، وإلحاقها بها في الأحكام، ذلك أن شركة العنان يجب فيها تبين مقدار كل من مالي الشريكين أو أموال الشركاء جميعا، عند خلط هذه الأموال بعضها ببعض، وهنا يستحيل ذلك، لأن أموال أرباب الأموال يودعونها في هذه المضاربة المشتركة على التتابع، ولا يمكن للمؤسسة الإسلامية أن تتبين مقدار مالها وأموال أرباب الأموال المودعة لديها سابقا عند كل إيداع، وهذا الأمر يمنع صحة الشركة في هذه الحال، وبالتالي فلا يمكن قياس أو إلحاق المضاربة المشتركة بشركة العنان في التعريف والإباحة والأحكام.
والاتجاه الثالث ينحو نحو عد المضاربة المشتركة ضربا من الإجارة، فيكون أرباب الأموال مستأجرين، وتكون المؤسسة الإسلامية أجيرا مشتركا، ويكون الربح كله لأرباب الأموال، وللمؤسسة الإسلامية أجرتها، والإجارة مشروعة باتفاق الفقهاء، فتكون المضاربة المشتركة مشروعة أيضا قياسا عليها.
إلا أنني أرى أن في المضاربة المشتركة القائمة الآن في المؤسسات الإسلامية ما لا يتفق مع مبدأ الإجارة المشتركة أو الفردية، لأن الإجارة تقتضي أن يكون الربح كله لأرباب الأموال، ويكون للمؤسسة الإسلامية مقدار معين من الأجر، سواء ربحت التجارة أو لم تربح أو خسرت، وهذا ما لا يتفق مع حال المضاربة المشتركة، ولا يمكن أن يرضى به أرباب الأموال فيها.
وأما الاتجاه الأول فإنه ينحو إلى قياس المضاربة المشتركة بحسب خطواتها السابقة على المضاربة الفردية التي اتفق الفقهاء على صحتها ومشروعيتها.
فوارق بين المضاربة المشتركة والمضاربة الفردية
إلا أنني أرى أن هنالك فوارق بين المضاربة المشتركة والمضاربة الفردية يمكن أن تحول دون جواز قياسها عليها، وإلحاقها بها في الإباحة والأحكام.
أهم هذه الفوارق:
أن المضاربة الفردية تكون بين فردين، هما رب المال والعامل، والثانية بين فرد واحد هو المؤسسة الإسلامية باعتبارها شخصية اعتبارية واحدة، وبين أرباب الأموال، وهم متعددون.
إلا أن هذا الفارق غير مؤثر في نظري، لأن بعض فقهائنا أجازوا للعامل في المضاربة الفردية أن يضارب لأكثر من رب مال واحد، مع الخلط بين أموالهم، بل وبين مالهم وماله هو، ولكن أكثرهم اشترط لذلك شروطا:
الأول: أن يكون ذلك برضا رب المال الأول، وهذا الشرط متوفر في المضاربة المشتركة، لأن أي رب مال يضع ماله في المؤسسة الإسلامية يعلم أن هذه المؤسسة تقبل المال منه ومن غيره أيضا، ولا يمانع في ذلك، فلا يكون ذلك فارقا بين النوعين، ولا تأثير له على مشروعية المضاربة المشتركة.
الثاني: أن يكون ذلك قبل أن يعمل المضارب في المال الأول، جاء في الشرح الكبير ما نصه: (وجاز للعامل خلطه من غير شرط، وإلا فسد كما مر، وإن كان الخلط بماله إن كان مثليا وفيه مصلحة لأحد أصحاب المالين غير متيقنة، وكان الخلط قبل شغل أحدهما، فيمنع خلط مقوَّم أو بعد شغل أحدهما وتعين لمصلحة متيقنة) ، وهذا الفارق يشكل مشكلة شائكة، وفارقا كبيرا بين النوعين من المضاربة، لأن المؤسسات الإسلامية تخلط أموال أرباب الأموال بعضها مع بعض، كما تخلط بين أموال هؤلاء وأموالها هي، قبل العمل في المال الأول وبعده. وهو ما يستحق الوقوف الطويل.
الثالث: أن لا يكون في هذا العمل إضرار برب المال الأول، قال ابن قدامة: (وإذا ضارب لرجل لم يجز أن يضارب لآخر إذا كان فيه ضرر على الأول.. وقال أكثر الفقهاء يجوز) . وهذا الشرط متوفر في المضاربة المشتركة، حيث إنه لا ضرر على أحد من الشركاء في خلط أموالهم، بل المصلحة في ذلك لهم، لأن تنمية المال الكثير تعود عادة بمردود ربحي أكبر من تنمية الأموال القليلة.
وعليه فإنني أرى أن التكييف الأوضح والأوفق للمضاربة المشتركة أو الجماعية هو قياسها وإلحاقها بالمضاربة الفردية، وعدِّها فرعا من فروعها، ولا يوجد في ذلك أي مشكلة كما قدمت، سوى موضوع خلط المضارب أموال المضاربين بعضها مع بعض أو خلطها بماله، برضا أصحاب الأموال، فإن فيه مشكلة، ذلك أن الفقهاء منعوا من الخلط إذا تم بعد عمل المضارب في المال الأول، وهو ما يتم في المضاربة المشتركة، بل هو من ضروراتها، ولو رجعنا إلى تعليل الفقهاء للمنع من ذلك، لوجدناه يتجلى فيما يترتب عليه من الجهالة في الربح، حيث إن المال الأول قد يربح دون الثاني، أو يربح الأول ويخسر الثاني، أو يربحان أو يخسران معا، ولكن بنسب متفاوتة متغايرة، لأن المضارب (المؤسسة الإسلامية) قد يتسلم المال من الأول، ويعمل فيه، وقبل أن يعلم أنه ربح أو خسر(لأن ذلك لا يعرف إلا بالتنضيض) يتسلم المال من الثاني، ويعمل فيه مع المال الأول مضموما إليه، ثم تأتي الحصيلة ربحا أو خسارة، ولا تدري المؤسسة كم حصة المال الأول منها قبل أن يخلط به غيره.
إلا أن هذه الجهالة في نظري أصبحت بعد تقدم نظم المحاسبة، ودقة عمل المؤسسات الإسلامية، جهالة يسيرة، والجهالة اليسيرة مغتفرة في المعاملات عامة، من ذلك ما لو باع رجل آخر سلعة بثمن مؤجل، فإن أجَّله إلى أجل محدد جاز، وإن أجله إلى أجل مجهول فسد البيع، ولقد بحث الفقهاء في هذه الجهالة، وقالوا: الجهالة المفسدة هي الجهالة الفاحشة، أما الجهالة القليلة فمغتفرة، مثل أن يؤجله إلى يوم كذا دون أن يحدد الساعة، لأن الجهالة في عدم تحديد الساعة جهالة يسيرة مغتفرة في العرف، ومتسامح بها، فلا تؤثر في صحة العقد، ويعبر البعض عن هذا المعنى بالمبارأة، أو المسامحة.
والآن أعود لأناقش أهم المشكلات التي تواجه المضاربة المشتركة، في ضوء نصوص الفقهاء المعتبرين، والقواعد التشريعية العامة في هذا النوع من المعاملة، وذلك بعدما بينت أن أقرب التكييفات الفقهية للمضاربة المشتركة أو الجماعية قياسها على المضاربة الفردية، التي اتفق الفقهاء على إباحتها ومشروعيتها، وبينت أنه لا مشكلة حقيقية في هذا القياس، بعد أن رأيت أن الجهالة فيها غير مؤثرة، لأنها يسيرة، ويتسامح الناس فيها غالبا.
وأهم هذه النقاط، ما يلي:
1 - لزوم المضاربة المشتركة إلى مدة معينة:
فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن المضاربة من العقود الجائزة غير اللازمة، قال العمراني:(القراض من العقود الجائزة، لكل واحد منهما أن يفسخه متى شاء) . وقال ابن قدامة: (والمضاربة من العقود الجائزة، تنفسخ بفسخ أحدهما أيهما كان، وبموته، وجنونه، والحجر عليه لسفه) . وقال الحصكفي: (وتبطل المضاربة بموت أحدهما ... وينعزل بعزله لأنه وكيل إن علم به...)
وعليه، فإن لكل من المضارب ورب المال أن يطلب إنهاءها في أي وقت، فإذا طلب العامل المضارب إنهاءها وجب على رب المال قبول ذلك، وكذلك إذا طلب رب المال إنهاءها وجب على المضارب الاستجابة لذلك، لكن إن كان المال ناضا عند الطلب فلا إشكال في ذلك، وإن كان غير ناض أعطي العامل مهلة مناسبة لتنضيضه، وليس له أن يشتري بالناض منه بعد طلب الإنهاء.
وخالف المالكية في ذلك، ورأوا أن المضاربة لا تحل إلا إذا اتفق الطرفان على حلها، أو قضى قاض بذلك وفقا للمصلحة، قال الدردير: (وإن استنضه أي كل منهما على سبيل البدلية أي طلب رب المال دون العامل أو عكسه نضوضه، فالحاكم ينظر في الأصلح من تعجيل أو تأخير، فإن اتفقا على نضوضه جاز... فإن لم يكن حاكم شرعي فجماعة المسلمين، ويكفي منهم اثنان فيما يظهر)
ولعل مذهب المالكية هنا هو الأوفق لمصلحة المضاربة المشتركة، حيث يصعب أو يستحيل إنهاؤها بناء على طلب أي من أرباب الأموال ذلك.
ولكن هل تقبل المضاربة التوقيت بمدة معينة عند عقدها، بسنة مثلا، أو أكثر من ذلك، أو أقل؟
ذهب الحنفية والحنبلية إلى جواز توقيت المضاربة بوقت معين، كسنة أو شهر، أو غير ذلك ، قال الكاساني: (ولو قال خذ هذا المال مضاربة إلى سنة جازت المضاربة عندنا..) ، وقال ابن قدامة: (ويصح تأقيت المضاربة … قال مهنا: سألت أحمد عن رجل أعطى رجلا ألفا مضاربة شهرا، قال: إذا مضى شهر يكون قرضا… وقال أبو الخطاب: في صحة شرط التأقيت روايتان، إحداهما هو صحيح، وهو قول أبي حنيفة، والثانية لا يصح، وهو قول الشافعي ومالك) وعليه، فإذا اتفق الطرفان على توقيتها بوقت معين، ثم انتهى وقتها، فإنها تنهي بذلك حكما عند الحنفية والحنبلية، ولا يجوز للعامل الشراء بعد ذلك، ولكن له البيع حتى تنض، هذا ما لم يتفقا على تمديدها، فإن اتفقا على تمديدها استمرت بالاتفاق الجديد.
وذهب مالك والشافعي إلى عدم صحة التوقيت، قال الدسوقي: ( ...أو قراض أجل كاعمل به سنة، أو سنة من الآن، أو إذا جاء الوقت الفلاني فاعمل فيه، ففاسد) ، وقال الشربيني الخطيب: ( ...فإن القراض المؤقت لا يصح، سواء أمنع المالك العامل التصرف، أم البيع، كما مر، أم سكت، أم الشراء، كما قاله شيخنا في منهجه، ولو كانت المدة مجهولة كمدة إقامة المعسكر، قال الماوردي: فيه وجهان ا.هـ. والظاهر منهما عدم الصحة) . وقال العمراني: (ولا يجوز القراض إلى مدة من المدد…) .
والذي أراه هنا، أن هذا الاختلاف بين الفقهاء في التأقيت خلاف قليل الأهمية والتأثير، ذلك أن الذين قالوا بجواز التأقيت قالوا بأن المضاربة جائزة وغير لازمة، وعليه فإن لكل من المضارب ورب المال عندهم أن يطلب إنهاءها في أي وقت شاء، سواء أقتت أولا.
2 - التخارج:
تقدم أن جمهور الفقهاء على أن المضاربة من العقود الجائزة غير اللازمة، سوى المالكية، وعليه فإن لأي من أرباب الأموال أن يخرج منها بالكلية أو يسحب بعض ماله منها في أي وقت شاء على مذهب الجمهور، وهذا الحكم يناسب الكثيرين من أرباب الأموال الذين يتعاملون بالمضاربة المشتركة، إلا أن غالب المؤسسات المالية يشترط عند وضع المال لديها إبقاءه مدة معينة ستة أشهر أو أكثر أو أقل، وعدم سحبه قبل ذلك، لأن هذا الشرط يتيح لها القيام بعمليات استثمارية أكثر، لأن بعض العمليات الاستثمارية تحتاج إلى مدة طويلة، وفي هذه الحال يمكن تلبية هذا المطلب بالأخذ بمذهب المالكية في جواز التوقيت كما تقدم.
إلا أنني أشير إلى أن على المؤسسات المالية الإسلامية أن لا تبالغ في المنع من السحب، لأن ذلك يعطل مصالح الكثيرين من أرباب الأموال، ويصرفهم عن التعامل مع هذه المؤسسات، وربما يدفع البعض منهم إلى العودة للتعامل مع المؤسسات الربوية.
ولذلك فإن المؤسسات الإسلامية في الغالب توفر سيولة مناسبة دائما لتلبية طلبات السحب من جهة، وتقيم نظامين للتعامل معها، الأول للودائع المؤقتة(وديعة)، والثاني للودائع المفتوحة(حساب استثماري)، ليختار كل متعامل معها من أرباب الأموال مسبقا النوع الذي يفضله ويتناسب مع ظروفه، وحتى الودائع المؤقتة إذا طلبها صاحبها قبل وقتها لسبب معين فإنها لا تمنعه من ذلك، وتعيدها إليه، ولكنها تحوله في حقوقه فيها إلى نظام الودائع غير المؤقتة، من حيث نسبة الأرباح التي يستحقها، بما يسمونه (كسر الوديعة)، وهو تصرف مناسب يؤمن مصلحة الطرفين.
3 - الاسترداد:
يعني الاسترداد في حقيقته سحب صاحب المال وديعته من المؤسسة المالية الاستثمارية الإسلامية في الوقت المحدد لوديعته-إن كانت مؤقتة-، وهذا الأمر لا إشكال فيه شرعا، سواء عند من يقول بجواز التوقيت أو عدم جوازه، فأما القائلون بالتوقيت فلأن وقت الوديعة قد انتهى فلا إشكال في سحبها، وأما غير القائلين بالتوقيت فلأن المضاربة عندهم غير لازمة ويجوز استرداد رأس المال فيها في أي وقت.
إنما هنالك مسألة بسيطة ينبغي الوقوف عندها قليلا، وهي مسألة عدم نضوض المال عند السحب، فإن الجميع متفقون على أن صاحب المال إذا طلبه والمال غير ناض فإنه ينظر مدة معينة مناسبة وجوبا إلى أن ينض المال، إلا أن جميع الفقهاء متفقون أيضا -فيما أظن- على أن العامل إذا اتفق مع رب المال على تقويم المال غير الناض ودفع قيمته إليه برضاه فإنه يجوز، ولا أظن أن الأمر في كثير من المؤسسات الإسلامية يجري إلا على وفق ذلك، فلا يكون في الأمر مشكلة لذلك.
إلا أن بعض المؤسسات المالية الاستثمارية الإسلامية تتعهد لصاحب المال بأن ترده إليه أو تشتريه منه بمبلغ محدد سلفا، وهذا في نظري غير جائز شرعا، لأنه صرف، ولا يجوز التفاضل في الصرف ما دام البدلان من جنس واحد، إلا أن نعده وعدا غير ملزم للواعد، فلا يكون فيه إشكال شرعي.
4 - توزيع الربح بطريقة النمر:
يراد بهذا المصطلح أن توزع حصة أرباب الأموال من الأرباح -عند تحققها- بين أرباب الأموال المودعين لدى المؤسسة الإسلامية الاستثمارية بحسب مقدار رأس مال كل منهم مضروبا في المدة التي بقي رأس مالهم فيها لدى المؤسسة الإسلامية، كأن يودع أحدهم لدى المؤسسة ألفا لمدة شهر، وآخر ألفين لمدة شهرين، مثلا، ويكون الربح خمسمائة، فإن الأول -بموجب مبدأ التوزيع بالنمر- يستحق مائة، والثاني يستحق أربعمائة، حيث تجعل الألف الواحدة من رأس المال نمرة، والشهر الواحد من الزمن نمرة، فيستحق الأول (1×1=1) ويستحق الثاني (2×2=4) ثم تجمع نمر الأول مع نمر الثاني (1+4=5) ثم يقسم الربح على مجموع النمر (500÷5=100) ، فتكون حصة النمرة الواحدة (100) ثم تضرب نمر الأول بحصة النمرة الواحدة (1×100=100) ، وتضرب نمر الثاني بقيمة النمرة الواحدة (4×100=400) . وهكذا .
هذا هو المبدأ الذي تمشي عليه عامة المؤسسات الإسلامية، وفيه جهالة دون شك، وهذه الجهالة ينبغي أن تكون مفسدة للمضاربة الجماعية، وهو قياس قول عامة فقهاء السلف، لأن الأرباح كلها قد تتحقق في الزمن الذي تلا سحب الأول لرأس ماله، أو قبل أن يودع رأس ماله فيه، فيكون الربح كله للثاني دون الأول، ويكون أخذ الأول له من أكل مال الغير بالباطل، وهو حرام باتفاق الفقهاء، لقوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .
إلا أن مصلحة المضاربة الجماعية التي أصبحت الأهم في طرق الاستثمار الإسلامي، وتقدم أساليب المحاسبة في هذه المؤسسات، وحصافة القائمين عليها وتوخيهم تحقيق الربح فيها بشكل منتظم ومتقارب، واتفاق أرباب الأموال على التسامح في ذلك، وجريان العرف على التعامل بطريقة النمر على أنها الحل الوحيد لتوزيع الأرباح في المؤسسات الإسلامية، كل هذا في نظري يسمح بالتغاضي عن هذه الجهالة، وعدم الاعتداد بها.
إلا أن الواجب في نظري هنا إعطاء نمرة لكل يوم من أيام الاستثمار، وليس لكل شهر نمرة، لأن اليوم تعد فيه الجهالة يسيرة مغتفرة دون الشهر، بدليل أن الفقهاء ينصون على أن من باع آخر مالا بأجل إلى شهر كذا، لم يصح العقد لجهالة الأجل جهالة فاحشة مفسدة للعقد، ولو باعه إياه بأجل إلى يوم كذا، صح دون بيان الليل أو النهار أو الساعة المحددة للوفاء، لأن اليوم الجهالة فيه قليلة مغتفرة، وعلى هذا العديد من المؤسسات التنموية الإسلامية.
وعلى كل فهذا اجتهاد مني أضعه أمام السادة الفقهاء الأفاضل، للنظر فيه، وإقراره أو تعديله أو اقتراح بديل عنه أفضل منه.
5 - تشكيل هيئة لأرباب المال (لجنة المشاركين):
يشترط عامة الفقهاء لصحة المضاربة تسليم المال للمضارب، وإطلاق يده في العمل فيه بحسب العرف، سواء كان ذلك مع التفويض الكامل له بالتصرف فيه من غير قيد أو شرط مسبق (المضاربة المطلقة) أو تقييده ببعض الشروط المناسبة لحفظ المال ( المضاربة المقيدة)، فلو لم يسلمه المال أصلا، أو سلمه إليه ومنعه من التصرف فيه، فلا تصح المضاربة، وكذلك إذا سلمه المال وقيده بقيود شديدة جدا تضر بالاسترباح، فإنه لا يصح أيضا، قال الدردير: (كاشتراط يده مع العامل في البيع والشراء والأخذ والعطاء فيما يتعلق بالقراض ففاسد، لما فيه من التحجير عليه) ، كما نصوا على أن اشتراط عمل رب المال مع العامل المضارب مفسد للمضاربة، قال الحصكفي: (واشتراط عمل رب المال مع المضارب مفسد للعقد لأنه يمنع التخلية0 ...)
ولكن ذلك لا يعني ترك الحبل على الغارب للعامل دون رقابة أو دون أي إشراف عليه أو رقابة على تصرفاته، نعم لا يجوز لرب المال واحدا كان أو أكثر أن يعرقل أعمال العامل في المال، ولكن له بكل تأكيد أن يشرف على عمله في المال، للتأكد من التزامه بالشروط والأعراف المأذون له التصرف على وفقها، وعليه فلا مانع –في نظري- من أن يشكل أصحاب الأموال الذين أودعوا أموالهم في المؤسسات الإسلامية لجانا أو هيئات معينة منهم، للقيام بالإشراف على أعمال المؤسسة في أموالهم، للتأكد من مدى مطابقتها لما عليهم التقيد به من الشروط والأعراف التجارية المستقرة، وللتأكد أيضا من التزامهم بأحكام الشريعة الإسلامية. دون أن يكون لهذه الهيئات حق التدخل في أعمال المؤسسة، ما دام ذلك العمل متوافقا مع أحكام الشريعة الإسلامية والشروط والأعراف التجارية المستقرة، ولا أظن أن في ذلك خلافا لدى الفقهاء القدامى أو المعاصرين.
6 - أمين الاستثمار (تريستي):
يقصد ب(التريستي) إقامة المؤسسة المالية الإسلامية جهة رقابية محاسبية من غير أجهزتها التي تعمل معها، من أجل التحقق من صحة قيام جميع عناصرها بأعمالهم بشكل منتظم، وهذه الهيئة سواء كانت فردا أو لجنة خبراء أو غير ذلك، لا مانع منها شرعا، ما دامت المؤسسة تراها لازمة لسلامة أعمالها وانتظامها، وسواء في ذلك أن تتبع هذه الهيئة المؤسسة نفسها، أو تتبع هيئة أرباب المال، فإن كانت الأولى فهي جزء من تصرفات المضارب، ولا شك في جوازها، وإن كانت تابعة لهيئة أرباب الأموال، فلا مانع منها أيضا، لأنها تكون مكملة لحقهم في الرقابة على أعمال المؤسسة الإسلامية، وهذا لا مانع منه ما دامت هذه الهيئة لا تتدخل في تصرفات المؤسسة المالية الإسلامية المنتظمة.
7- وضع معدلات لربح المضارب(حوافز):
بينا سابقا أن من شروط صحة المضاربة بيان حصة كل من المضارب ورب المال في الربح، وأن تكون هذه الحصص نسبة شائعة في الربح.
إلا أن بعض أرباب الأموال المودعين بعض أموالهم في المؤسسات الإسلامية الاستثمارية يودون تشجيع بعض المؤسسات الاستثمارية الإسلامية على مضاعفة جهدها في تنمية أموالهم لديها، لتؤمن لهم نسبة ربح أكبر، فيشرطون لها نسبة ربح أكبر إذا ارتفعت نسبة الربح بسبب عملها في هذا المال عن حد معين يبينوه في العقد، كأن يقول أصحاب المال للمؤسسة الإسلامية: لكم عشرة في المائة من الربح إذا لم تزد نسبة الربح في أموالنا في السنة القادمة عن عشرين في المائة من رأس المال، مثلا، ولنا الباقي من الربح، فإذا زادت نسبة الربح عن عشرين في المائة من رأس المال، فلكم خمس عشرة في المائة من الربح، ولنا الباقي، أو لكم نصف الزائد عن عشرين في المائة من الربح، إلى جانب النسبة السابقة -عشرة في المائة- مثلا، فهل يجوز ذلك؟
إنني لا أرى ما يمنع من جواز ذلك، لأن شرط صحة المضاربة بيان مقدار حصة كل من رب المال والعامل من الربح في المضاربة، وأن يكون ذلك نسبة شائعة في الربح، وهذا الشرط لا يخل بذلك، فيكون جائزا.
8 - تحديد المضارب في حال إدارة المضاربة من قبل الشخصيات المعنوية (المؤسسات أو الشركات):
في المضاربة الفردية، المضارب هو العامل الذي يقوم بأعمال التجارة في مال رب المال، لا شبهة في ذلك، أما في المضاربة مع شخصيات اعتبارية، مثل الشركات التي يقوم بها جماعة من الموظفين والعمال وغيرهم، فمن هو المضارب في هذه الحال؟
إن تحديد ذلك ضروري لتحديد من يستحق ذلك المقدار من الربح المخصص للمضارب.
ولبيان ذلك أقول:
لشركة المضاربة طريقان في التعامل مع أرباب الأموال:
الأولى: أن تجعل الشركة -باعتبارها شخصية اعتبارية- هي المضارب، وبذلك تستحق هي وحدها حق المضارب في الربح في عقد المضاربة، باعتبارها السابق، فتأخذ هذا المقدار من الربح، وتضمه إلى رأس مالها هي، مع الأرباح المتحققة فيه، ثم توزعه على الشركاء بحسب نظامها، أما العمال والموظفون لديها فهم تابعون لها ولا حصة لهم في هذا الربح، وإنما لهم رواتبهم باعتبارهم أجراء يعملون في الشركة التي هي شخصية اعتبارية.
والطريق الثانية: أن تَجعل الشركة عمالها وموظفيها جميعا هم المضارب، وبذلك يستحقون جميعا المقدار المحدد للمضارب في المضاربة من الربح، ويوزع هذا المقدار عليهم بحسب عمل كل منهم في مال المضاربة، ويؤخذ بعين الاعتبار في ذلك الزمن والاختصاص وغير ذلك مما له أثر في العمل وتحقيق الربح، ولا يكون لهم أجرة في الشركة، إلا أن يكون لهم فيها أعمال أخرى خارجة عن طبيعة المضاربة، ولا تتضارب مع عملهم في المضاربة.
ولا أظن أن المؤسسات الإسلامية الاستثمارية تفضل الطريق الثانية، وعلى كل فالأمر متروك لهذه الشركات على السعة، لتختار ما هو الأوفق لمصالحها.
9 - الضمان في المضاربة (ضمان المضارب):
مشكلة اشتراط ضمان مال المضاربة على المضارب في المضاربة المشتركة أو الجماعية من المشكلات الشائكة.
ذلك أن عامة الفقهاء يجعلون مال المضاربة في يد المضارب في المضاربة الفردية أمانة، فلا يضمنه إذا خسر أو ضاع أو تلف بأي شكل من الأشكال، ما دام هذا التلف أو الخسارة بغير تعد أو تقصير من المضارب، فإذا نتج ذلك عن تعد أو تقصير من المضارب فإنه يضمنه باتفاق الفقهاء. قال الحصكفي: (وما هلك من مال المضاربة يصرف في الربح، لأنه تبع، فإن زاد الهالك عن الربح لم يضمن ولو فاسدة من عمله، لأنه أمين..) ، وقال العمراني: (والعامل أمين على مال القراض لا يضمن شيئا منه إلا بالتعدي...) وقال أيضا: (إذا فرَّط العامل بمال القراض ضمنه...).
فإذا شرط صاحب المال على المضارب ضمان الخسارة أو التلف أو جزء منه لم يصح، والبعض أفسد المضاربة كلها بذلك، والبعض الآخر أفسد الشرط وصحح المضاربة، قال ابن قدامة: (وإذا اتفق رب المال والمضارب على أن الربح بينهما والوضيعة عليهما كان الربح بينهما والوضيعة على المال ... فالشرط باطل) .
والمشكلة تكمن في أن المؤسسات الربوية (البنوك التقليدية) تضمن الودائع (القروض) لأصحابها إذا ضاعت أو خسرت، ويود بعض المعاصرين أن يعطوا المؤسسات الإسلامية للاستثمار هذا الحكم أيضا، لكيلا يكون هذا الفارق بينها وبين المؤسسات الربوية صارفا لبعض أصحاب الأموال عن التعامل مع المؤسسات الإسلامية.
وقد قام ببحث هذا الموضوع عدد من الكتاب والفقهاء المعاصرين، ومال بعض إلى تضمين المؤسسات الإسلامية الخسارة والتلف إذا شرط ذلك عليها، قياسا على الأجير المشترك، إلا أن الكثير منهم أيضا رد هذا القياس لأسباب كثيرة، أهمها أن القياس شرطه أن يكون المقيس عليه ثابتا بنص، وليس الضمان في الإجارة المشتركة كذلك، بل هو اجتهاد لم يجمع الفقهاء عليه، ثم إن عليا رضي الله تعالى عنه الذي روي عنه القول بتضمين الأجير المشترك، نقل عنه نفسه عدم القول بتضمين المضارب مطلقا، قال ابن قدامة: (إذا تعدى المضارب وفعل ما ليس له فعله أو اشترى شيئا نهي عن شرائه فهو ضامن للمال في قول أكثر أهل العلم ... وعن علي رضي الله عنه :لاضمان على من شورك في الربح) . وإنني هنا أرى أنه لا يجوز بحال تضمين المضارب ما نتج عن خسارتها، ما دام ذلك بغير تعد منه أو تقصير، مهما كانت الأسباب الداعية إلى التضمين، لأنه حكم متفق عليه بين فقهاء السلف، ولا خلاف فيه بينهم، ولا دليل على التضمين يمكن الاستناد إليه من النصوص أو القياسات الصحيحة.
مسائل أود الإشارة إليها
وهناك مسائل أود الإشارة إليها في ختام بحثي هذا بشيء من الإيجاز، وهي:
1 - مسألة اشتراط جزء من ربح مال المضاربة ليوزع على الفقراء والمساكين وفي طرق البر العامة أو بعض المصالح العامة، وهو ما تعمد إليه بعض المؤسسات الاستثمارية الإسلامية، فقد بحث فقهاؤنا في هذا الشرط، واتجهوا إلى أن الشرط فاسد والمضاربة صحيحة، قال الحصكفي: (ولو شرط بعض الربح للمساكين أو للحج أو في الرقاب أو لامرأة المضارب أو مكاتبه صح العقد ولم يصح الشرط، ويكون المشروط لرب المال، ولو شرط البعض لمن شاء المضارب، فإن شاء لنفسه أو لرب المال صح الشرط، وإلا، بأن شاء لأجنبي، لا يصح) . وقال العمراني: (إذا شرط رب المال لنفسه ثلث الربح ولزوجته أو لغلامه الحر أو الأجنبي ثلث الربح وللعامل الثلث، فإن شرط على زوجته وغلامه الحر أو الأجنبي العمل مع العامل جاز، كما لو قارض اثنين، وإن لم يشترط عليهم العمل لم يصح..) .
2 - ومسألة قيام هذه المؤسسات الإسلامية الاستثمارية بدفع زكاة الأموال المودعة لديها نيابة عن أصحاب هذه الأموال، وهو ما تقوم به فعلا بعض هذه المؤسسات الإسلامية الاستثمارية، والصحيح أن الزكاة عبادة لا بد فيها من النية من المزكي، ولذلك فإنني لا أرى جواز قيام المؤسسة الإسلامية الاستثمارية بدفع الزكاة عن الأموال المودعة لديها، إلا إذا قام أصحاب الأموال بتفويضها بذلك، فإذا فوضوها بذلك جاز، لأن الزكاة تقبل الإنابة والوكالة، ولسبب آخر هو أن للزكاة شروطا أخرى، منها تمام النصاب الزائد عن الحاجات الأصلية، وربما كان المال المودع لديها فوق النصاب ولكن مالكه مدين لغيره بمثله أو بأكثر منه ...، ففي هذه الحال لا تجب الزكاة عليه، وكذلك تمام الحول بعد تمام النصاب بالنسبة للمزكي.
3 – أود الإشارة هنا إلى أن المضاربة المشتركة على ما توفره من مصالح لأرباب الأموال والعاملين عامة في نطاق الاستثمار الإسلامي، فإنها لا تخلو من محاظير شرعية حاولت كما حاول غيري من الفقهاء المعاصرين تفسيرها وتخريجها قدر الإمكان، إلا أنه لا زال من بعض منها في النفس شيء، وهناك طريق أخرى للاستثمار الإسلامي، توفر لجميع أرباب الأموال فرصا كبيرة للاسترباح الحلال، كما توفر للخبراء باستثمار المال فرصا كبيرة للاستثمار أيضا، وتوفر للأيدي العاملة فرصا للعمل كبيرة، كما توفر لسائر المواطنين السلع بأحسن حال وأرخص سعر، مما يقلل من أهمية استيراد السلع من الخارج، وهو مصلحة قومية ووطنية وإسلامية، وهي الشركات المساهمة، حيث توفر كل ما ذكرت، وهو فوق ما توفره المضاربة المشتركة من المصالح، وهي في الوقت نفسه مشروعة ولا إشكال في مشروعيتها من غير خلاف، وهذه الشركات المساهمة توفر لأرباب الأموال تسييل أموالهم عند الحاجة إليها ببيع أسهمها، كما توفر لكثير من الأراضي الزراعية المهملة بل الميتة أيضا فرصا لإحيائها واستثمارها بالزراعة وغيرها، وهي مصلحة كبرى لعالمنا العربي المعروف بالزراعة، لذا فإنني أحفز أرباب الأموال والشركات الاستثمارية الإسلامية أن تنتبه لأهمية هذه الطريق الاستثمارية الهامة، والتعامل بها بديلا أو رديفا للمضاربة المشتركة، لما تقدم من المصالح الكثيرة التي توفرها من غير خلاف بين الفقهاء في مشروعيتها.
هذا ما ظهر لي في هذا المقام بعد الدراسة والبحث، ولا أخفي أن بعض النقاط التي تعرضت إليها في هذا الموضوع لازالت شائكة في نظري، وبحاجة ماسة إلى المزيد من الدراسة والبحث، ولعل السادة العلماء المشاركين في هذه الندوة الكريمة يكشفون في مناقشاتهم ومداخلاتهم ما يزيل الإشكال عنها، ويضعها في طريقها الصحيح، وهو ما شجعني على تقديم بحثي هذا، رجاء تصويبه بالمناقشات الغنية بالمعرفة، عسى أن نصل في هذا الموضوع الهام إلى اتفاق، يجعلنا نطمئن إلى أنه الموافق لشرع الله تعالى العظيم .
والله تعالى من وراء القصد، وهو أجل وأعلم.
أ.د.أحمد الحجي الكردي