حكم تعامل الأفراد والشركات مع البنوك التقليدية
في فتح الحسابات بأنواعها
في الدول الإسلامية وغيرها
مقدمة عن تعريف الربا وحكمه في الشريعة الإسلامية:
الرّبا عامة في اصطلاح الفقهاء (فضل خالٍ عن عوضٍ بمعيارٍ شرعيٍّ مشروطٍ لأحد المتعاقدين في المعاوضة)[1].
وهو محرّم بالكتاب والسّنّة والإجماع، وهو من الكبائر، ومن السّبع الموبقات، ولم يؤذن اللّه تعالى في كتابه عاصياً بالحرب سوى آكل الرّبا، ومن استحلّه فقد كفر - لإنكاره معلوماً من الدّين بالضّرورة - فيستتاب، فإن تاب وإلاّ أقيم عليه الحد، أمّا من تعامل بالرّبا من غير أن يكون مستحلاً له فهو فاسق[2].
قال الماورديّ وغيره: إنّ الرّبا لم يحلّ في شريعةٍ قطّ لقوله تعالى: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ)(النساء: من الآية161) يعني في الكتب السّابقة[3].
ودليل التّحريم من الكتاب الكريم:
قول اللّه تبارك وتعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(البقرة: من الآية275). وقوله عزّ وجلّ: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (البقرة: من الآية275).
قال السّرخسيّ: ذكر اللّه تعالى لآكل الرّبا خمساً من العقوبات:
إحداها: التّخبّط، قال اللّه تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ )(البقرة: من الآية275).
الثّانية: المحق، قال تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)(البقرة: من الآية276) والمراد الهلاك والاستئصال، وقيل: ذهاب البركة والاستمتاع حتّى لا ينتفع به، ولا ولده بعده.
الثّالثة: الحرب، قال اللّه تعالى: (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)(البقرة: من الآية279).
الرّابعة: الكفر، قال اللّه تعالى: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(البقرة: من الآية278). وقال سبحانه بعد ذكر الرّبا: (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)(البقرة: من الآية276) أي: كفّارٍ باستحلال الرّبا، أثيمٍ فاجرٍ بأكل الرّبا.
الخامسة: الخلود في النّار، قال تعالى: (وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(البقرة: من الآية275)[4].
وكذلك قول اللّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(آل عمران: من الآية130) وقوله سبحانه: {أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة} ليس لتقييد النّهي به، بل لمراعاة ما كانوا عليه من العادة توبيخاً لهم بذلك، إذ كان الرّجل يربي إلى أجلٍ، فإذا حلّ الأجل قال للمدين: زدني في المال حتّى أزيدك في الأجل، فيفعل، وهكذا عند محلّ كلّ أجلٍ، فيستغرق بالشّيء الطّفيف ماله بالكلّيّة، فنهوا عن ذلك ونزلت الآية[5].
ودليل التّحريم من السّنّة الشريفة أحاديث كثيرة، منها:
ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ) متفق عليه.
وما رواه مسلم عن جابر بن عبد اللّه رضي الله تعالى عنهما قال: (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ).
وأجمعت الأمّة على أصل تحريم الرّبا، وإن اختلفوا في تفصيل مسائله وتبيين أحكامه وتفسير شرائطه[6].
هذا، ويجب على من يقرض أو يقترض أو يبيع أو يشتري أن يبدأ بتعلّم أحكام هذه المعاملات قبل أن يباشرها، حتّى تكون صحيحةً وبعيدةً عن الحرام والشّبهات، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب، وتركه إثم وخطيئة، وهو إن لم يتعلّم هذه الأحكام قد يقع في الرّبا دون أن يقصد الإرباء، بل قد يخوض في الرّبا وهو يجهل أنّه تردّى في الحرام وسقط في النّار، وجهله لا يعفيه من الإثم ولا ينجّيه من النّار، لأنّ الجهل والقصد ليسا من شروط ترتّب الجزاء على الرّبا، فالرّبا بمجرّد فعله - من المكلّف - موجب للعذاب العظيم الّذي توعّد اللّه تعالى جلّ جلاله به المرابين، يقول القرطبيّ: لو لم يكن الرّبا إلاّ على من قصده ما حرّم إلاّ على الفقهاء.
وقد أثر عن السّلف أنّهم كانوا يحذّرون من الاتّجار قبل تعلّم ما يصون المعاملات التّجاريّة من التّخبّط في الرّبا، ومن ذلك قول عمر رضي الله تعالى عنه: لا يتّجر في سوقنا إلاّ من فقه، وإلاّ أكل الرّبا، وقول عليٍّ رضي الله عنه: من اتّجر قبل أن يتفقّه ارتطم في الرّبا ثمّ ارتطم ثمّ ارتطم، أي: وقع وارتبك ونشب.
وقد حرص الشّارع على سدّ الذّرائع المفضية إلى الرّبا، لأنّ ما أفضى إلى الحرام حرام، وكلّ ذريعةٍ إلى الحرام هي حرام، روى أبو داود بسنده عن جابرٍ رضي الله عنه قال: لمّا نزلت: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)(البقرة: من الآية275)، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَمْ يَذَرْ الْمُخَابَرَةَ فَلْيَأْذَنْ بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) رواه أبو داود، وقال ابن كثيرٍ: وإنّما حرّمت المخابرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة وهي اشتراء الرّطب في رؤوس النّخل بالتّمر على وجه الأرض، والمحاقلة وهي اشتراء الحبّ في سنبله في الحقل بالحبّ على وجه الأرض، إنّما حرّمت هذه الأشياء وما شاكلها حسماً لمادّة الرّبا، لأنّه لا يعلم التّساوي بين الشّيئين قبل الجفاف، ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة، ومن هذا حرّموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الرّبا والوسائل الموصّلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب اللّه لكلٍّ منهم من العلم.
أقسام الرّبا
الربا المحرم شرعا على قسمين: ربا الفضل وربا النَّساء.
فأما ربا الفضل، وهو ربا البيوع، فيكون في الأعيان الرّبويّة، وهو الّذي عني الفقهاء بتعريفه وتفصيل أحكامه في البيوع، وعرفه الحنفيّة بأنّه (فضل خالٍ عن عوضٍ بمعيارٍ شرعيٍّ مشروطٍ لأحد المتعاقدين في المعاوضة)[7].
أما ربا النّسيئة، فهو فضل الحلول على الأجل، وفضل العين على الدّين في المكيلات أو الموزونات عند اختلاف الجنس، أو في غير المكيلات أو الموزونات عند اتّحاد الجنس، وربا النسيئة هو الأهم، وهو محل الدراسة.
ومن ربا النّسيئة: الزّيادة في الدّين نظير الأجل، أو الزيادة في الأجل، وسمّي هذا النّوع من الرّبا ربا النّسيئة من أنسأته الدّين إذا أخّرته عنه، لأنّ الزّيادة فيه مقابل الأجل أيّاً كان سبب الدّين بيعاً كان أو قرضاً.
وسمّي ربا النسيئة بربا القرآن، لأنّه حرّم بالقرآن الكريم في قول اللّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:130)، ثمّ أكّدت السّنّة النّبويّة تحريمه في خطبة الوداع، وفي أحاديث أخرى، ثمّ انعقد إجماع المسلمين على تحريمه.
كما سمّي ربا النسيئة بربا الجاهليّة، لأنّ تعامل أهل الجاهليّة بالرّبا لم يكن إلاّ به، كما قال الجصّاص، والرّبا الّذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنّما كان قرض الدّراهم والدّنانير إلى أجلٍ بزيادةٍ على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به، وسمّي أيضاً الرّبا الجليّ، قال ابن القيّم: الجليّ ربا النّسيئة، وهو الّذي كانوا يفعلونه في الجاهليّة، مثل أن يؤخّر دينه ويزيده في المال، وكلّما أخّره زاده في المال حتّى تصير المائة عنده آلافاً مؤلّفةً.
أثر الرّبا في العقود:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ العقد الّذي يخالطه الرّبا مفسوخ لا يجوز بحالٍ، وأنّ من أربى ينقض عقده ويردّ فعله وإن كان جاهلاً، لأنّه فعل ما حرّمه الشّارع ونهى عنه، والنّهي يقتضي التّحريم والفساد، وقد قال النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ) متفق عليه، ولحديث: (جاء بلال رضي الله عنه بتمرٍ برنيّ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من أين هذا؟ فقال بلال: من تمرٍ كان عندنا رديءٍ، فبعت منه صاعين بصاعٍ لمطعم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عند ذلك: أوّه عين الرّبا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التّمر فبعه ببيعٍ آخر ثمّ اشتر به) متفق عليه، فقوله صلى الله عليه وسلم: (أوّه عين الرّبا) أي هو الرّبا المحرّم نفسه لا ما يشبهه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فهو ردّ) يدلّ على وجوب فسخ صفقة الرّبا، وأنّها لا تصحّ بوجهٍ.
وروى مسلم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: (وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ). وقال عنه النّوويّ في شرح مسلمٍ قوله: المراد بالوضع الرّدّ والإبطال.
وفصّل ابن رشدٍ فقال: من باع بيعاً أربى فيه غير مستحلٍّ للرّبا فعليه العقوبة الموجعة إن لم يعذر بجهلٍ، ويفسخ البيع ما كان قائماً، والحجّة في ذلك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمر السّعدين أن يبيعا آنيةً من المغانم من ذهبٍ أو فضّةٍ، فباعا كلّ ثلاثةٍ بأربعةٍ عيناً، أو كلّ أربعةٍ بثلاثةٍ عيناً، فقال لهما رسول اللّه صلى الله تعالى عليه وسلم: (أَرْبَيْتُمَا فَرُدَّا) رواه مالك في الموطأ.
فإن فات البيع فليس له إلاّ رأس ماله قبض الرّبا أو لم يقبضه، فإن كان قبضه ردّه إلى صاحبه، وكذلك من أربى ثمّ تاب فليس له إلاّ رأس ماله، وما قبض من الرّبا وجب عليه أن يردّه إلى من قبضه منه، وأمّا من أسلم وله ربا، فإن كان قبضه فهو له، لقول اللّه عزّ وجلّ: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ)(البقرة: من الآية275)، ولقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (من أسلم على شيءٍ فهو له) رواه البيهقي وأبو يعلى، وفيه ضعف، وأمّا إن كان لم يقبض الرّبا فلا يحلّ له أن يأخذه، وهو موضوع عن الّذي هو عليه، ولا خلاف في هذا أعلمه[8].
وقال الحنفيّة: اشتراط الرّبا في البيع مفسد للبيع، لكنّهم يفرّقون في المعاملات بين الفاسد والباطل، فيملك المبيع في البيع الفاسد بالقبض، ولا يملك في البيع الباطل بالقبض، يقول ابن عابدين: الفساد والبطلان في العبادات سيّان، أمّا في المعاملات، فإن لم يترتّب أثر المعاملة عليها فهو البطلان، وإن ترتّب فإن كان مطلوب التّفاسخ شرعاً فهو الفساد، وإلاّ فهو الصّحّة.
والبيع الرّبويّ عند الحنفيّة من البيوع الفاسدة، وحكم البيع الفاسد عندهم أنّ العوض يملك بالقبض ويجب ردّه لو قائماً، وردّ مثله أو قيمته لو مستهلكاً، وعليه فإنّه يجب ردّ الزّيادة الرّبويّة لو قائمةً، لا ردّ ضمانها، قال ابن عابدين: وحاصله أنّ فيه حقّين، حقّ العبد وهو ردّ عينه لو قائماً ومثله لو هالكاً، وحقّ الشّرع وهو ردّ عينه لنقض العقد المنهيّ عنه شرعاً، وبعد الاستهلاك لا يتأتّى ردّ عينه فتعيّن ردّ المثل، وهو محض حقّ العبد.
الرّبا في دار الحرب
ذهب جمهور الفقهاء وأبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّه لا فرق في تحريم الرّبا بين دار الحرب ودار الإسلام، فما كان حراماً في دار الإسلام كان حراماً في دار الحرب، سواء جرى بين مسلمين أو مسلمٍ وحربيٍّ، وسواء دخلها المسلم بأمانٍ أم بغيره.
واستدلّوا على ذلك بعموم نصوص القرآن الكريم والسّنّة الشريفة في تحريم الرّبا من غير فرقٍ، ولأنّ ما كان رباً في دار الإسلام كان رباً محرّماً في دار الحرب، كما لو تبايعه مسلمان مهاجران، وكما لو تبايعه مسلم وحربيّ في دار الإسلام، ولأنّ ما حُرّم في دار الإسلام حُرّم هناك، كالخمر وسائر المعاصي، ولأنّه عقد على ما لا يجوز في دار الإسلام، فلم يصحّ، كالنّكاح الفاسد هناك[9].
وقال أبو حنيفة ومحمّد: لا يحرم الرّبا بين المسلم والحربيّ في دار الحرب، ولا بين مسلمين أسلما في دار الحرب ولم يهاجرا منها، لأنّ مالهم مباح، إلاّ أنّه بالأمان حرم التّعرّض له بغير رضاهم تحرّزاً عن الغدر ونقض العهد، فإذا رضوا به حلّ أخذ مالهم بأيّ طريقٍ كان، بخلاف المستأمَن، لأنّ ماله صار محظوراً بالأمان[10].
ولا بد من التنبه هنا إلى أن أبا حنيفة ومحمد يجيزان للمسلم أخذ الربا من الحربي في دار الحرب، ولا يجيزان له أخذه من الحربي أو غيره في دار الإسلام، لأن مال المستأمن مصون، كما لا يجيزان للمسلم إطعام الربا للحربي ولا غيره، في دار الحرب أو دار الإسلام على سواء، فالجواز في الأخذ وليس في الدفع، يوحي بذلك استدلالهما على الإباحة بأن مال الحربي في دار الحرب غير مصون، وهذا يدل على الأخذ دون الدفع، لدخول الدفع تحت عموم المنع في قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(البقرة: من الآية275)، ولأن مال المسلم مصون في حق المسلم، سواء كان في دار الحرب أو دار الإسلام، فلا يجوز أخذه منه باسم الربا أبدا، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم: (وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ) رواه مسلم.
قال ابن عابدين في رد المحتار: قوله: (لان ماله ثمة مباح) قال في فتح القدير: لا يخفى أن هذا التعليل إنما يقتضي حل مباشرة العقد إذا كانت الزيادة ينالها المسلم، والربا أعم من ذلك، إذ يشمل ما إذا كان الدرهمان: أي في بيع درهم بدرهمين من جهة المسلم ومن جهة الكافر، وجواب المسألة بالحل عام في الوجهين، وكذا القمار قد يفضي إلى أن يكون مال الخطر للكافر بأن يكون الغلب له، فالظاهر أن الإباحة بقيد نيل المسلم الزيادة، وقد ألزم الأصحاب في الدرس أن مرادهم من حل الربا والقمار ما إذا حصلت الزيادة للمسلم، نظرا إلى العلة، وإن كان إطلاق الجواب خلافه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ا هـ. قلت: ويدل على ذلك ما في السير الكبير وشرحه حيث قال: وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان، فلا بأس بأن يأخذ منهم أموالهم بطيب أنفسهم بأي وجه كان، لأنه إنما أخذ المباح على وجه عري عن الغدر، فيكون ذلك طيبا له، والأسير والمستأمن سواء، حتى لو باعهم درهما بدرهمين أو باعهم ميتة بدراهم أو أخذ مالا منهم بطريق القمار، فذلك كله طيب له ا هـ ملخصا.
فانظر كيف جعل موضوع المسألة الأخذ من أموالهم برضاهم، فعلم أن المراد من الربا والقمار في كلامهم ما كان على هذا الوجه وإن كان اللفظ عاما، لان الحكم بدور مع علته غالبا. (رد المحتار 4/188).
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن قول أبي حنيفة ومحمد في جواز أكل الربا من الحربي في دار الحرب إنما هو مشروط أيضا بأن تكون المصلحة فيه للمسلم آكل الربا، وليس لغير المسلم الدافع للربا، ذلك أن دافع الربا قد يكون هو المنتفع، كمما يحصل في إيداع كثير من أثرياء المسلمين أموالا طائلة في بنوك أجنبية بقصد الاستفادة من الربا، فإن هذه البنوك تنتفع من هذه الأموال أكثر مما ينتفع منها واضعوها في هذه البنوك، وعندها تنتفي المصلحة التي قرر أبو حنيفة ومحمد جواز أكل الربا من أجلها، وهي تحقق مصلحة المسلم من ذلك، وفي ظني لو أن أبا حنيفة كان موجودا بيننا، ورأى ما نتج عن إيداع أغنياء المسلمين أموالهم في البنوك الربوية الأجنبية لحرمه، وعلى كل هو قول لفقيهين معتبرين خالفا فيه جماعة الفقهاء والمجتهدين، فلا يكون قولهما –على علو مقامهما- هو الراجح.
ويستوي في منع الربا المحرم أن يكون مع فرد، أو مؤسسة، أو بنك، أو شركة، أو مع الدولة، لعموم التحريم في القرآن الكريم والسنة المطهرة، من غير تفصيل، إلا ما استثناه أبو حنيفة ومحمد كما تقدم.
وقد أيد ذلك كله مجمع الفقه الإسلامي في جدة بقراره رقم -(3) في مؤتمره الثاني المنعقد في جده من 10-16/ربيع الثاني 1406هـ الموافق 22-28/ديسمبر 1985م، حيث جاء فيه ما يلي: (إن كل زيادة أو فائدة على الدين الذي أجله وعجز عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة (أو الفائدة) على القرض منذ بداية العقد، هاتان الصورتان ربا محرم شرعا، وإن البديل الذي يضمن السيولة والمساعدة على النشاط الاقتصادي حسب الصورة التي يرتضيها الإسلام هو التعامل وفقا لأحكام الشريعة).
وقرر المجلس التأكيد على دعوة الحكومات الإسلامية إلى تشجيع المصارف التي تعمل بمقتضى الشريعة الإسلامية، والتمكين لإقامتها في كل بلد إسلامي لتغطي حاجة المسلمين كيلا يعيش المسلم في تناقض بين واقعه ومقتضيات عقيدته).
وكذلك قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 133/7/14 في دورته الرابعة عشرة من 8 إلى 13/من ذي القعدة 1423هـ الموافق 11-16 من كانون الثاني 2003م حيث جاء فيه ما يلي: (إن القوانين المنظمة لعمل البنوك تمنعها من العمل في مجال الاستثمار القائم على الربح والخسارة، فهي تتلقى الودائع من الجمهور بصفتها قروضا، وتحصر وظائفها – كما يقول القانونيون والاقتصاديون - في الإقراض والاقتراض بفائدة، وخلق الائتمان بإقراض تلك الودائع بفائدة).
كما جاء فيه: (إن فوائد البنوك على الودائع من الربا المحرم شرعا في الكتاب والسنة).
ولجنة الإفتاء بالأزهر الشريف أكدت على حرمة عوائد شهادات الاستثمار(آ ، ب) لأنها من باب القرض بفائدة، والقرض بفائدة ربا، والربا حرام.
كما أفتى فضيلة مفتي مصر الشيخ محمد سيد طنطاوي في رجب 1904هـ الموافق فبراير 1989م بحرمة إيداع الأموال في البنوك أو إقراضها أو الاقتراض منها بأي صورة من الصور مقابل فائدة محددة مقدما.
وكذلك مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف في مؤتمره الثاني في عام 1961م، نص على ما يلي: (الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي، وكثير الربا في ذلك وقليله حرام، والإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك).
ويستوي في تحريم إيداع الأموال في البنوك التقليدية وأخذ الفوائد عليها أن يكون الإيداع والأخذ في البلاد الإسلامية أو غيرها، وأن يكون الإيداع على شكل وديعة طويلة الأمد، أو قصيرة الأمد، أو بشكل حساب استثماري يمكن سحب رأس المال منه في أي وقت، وذلك ما دام الإيداع بفوائد معينة، سواء كانت محددة عند الإيداع أو غير محددة، وهي (الفوائد المتغيرة).
وكذلك الإيداع في البنوك التقليدية في حساب جار بغير فوائد، فإنه ممنوع أيضا، لأن البنك الذي تودع الأموال فيه يستفيد منها بالطرق الربوية المحرمة، فيكون المودِع متسببا في هذا الدخل المحرم، فيكون مشاركا في الإثم لذلك.
إلا أن الفقهاء أجازوا -في حال الضرورة عندما لا يجد المسلم مكانا لحفظ أمواله غير البنوك الربوية- أن يودع أمواله في فيها في حساب جار بدون فوائد، على أن يسحبها من البنك عندما يجد مكانا آخر لحفظها، لأن حفظ المال من الضياع من الضروريات، وهي مما يباح من أجله الإيداع في البنوك الربوية، للقاعدة الفقهية: (الضرورات تبيح المحظورات)، إلا أن الإيداع يجب أن يكون بغير فوائد، للقاعدة الفقهية الكلية:(الضرورات تقدر بقدرها).
فإذا لم يجد المسلم مكانا لإيداع أمواله غير البنك الربوي بفوائد، فلا بأس بإيداعها بفوائد للضرورة المتقدمة، وعند سحبها يترك الفوائد للبنك، لقوله تعالى: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)(البقرة: من الآية279)، فإذا تعذر عليه ذلك، وطلب منه سحب الفوائد، فلا بأس بسحبها وإنفاقها على الفقراء وفي طرق البر العامة، دون الاستفادة منها بشيء، لقول الفقهاء: (وإذا كان في عهدة المكلّف مال حرام، فإن علم أصحابه وجب ردّه إليهم، وإن لم يعلم أصحابه يتصدّق به.
أمّا الآخذ، أي المتصدَّق عليه، فإن عرف أنّ المال المتصدّق به من النّجس أو الحرام كالغصب، أو السّرقة، أو الغدر، فيستحبّ له أن لا يأخذه ولا يأكل منه، فإن أخذه فلا شيء عليه.
يقول ابن عابدين: إذا كان عليه ديون ومظالم لا يعرف أربابها، وأيس من معرفتهم، فعليه التّصدّق بقدرها من ماله، وإن استغرقت جميع ماله[11].
وقال ابن الهمام: يؤمر بالتّصدّق بالأموال الّتي حصلت بالغدر، كالمال المغصوب.
قال الجمل من الشّافعيّة: لو تصدّق أو وهب أو أوصى بالنّجس صحّ على معنى نقل اليد، لا التمليك.
وصرّح الحنبلية: بأنّ من بيده نحو غصوب، أو رهون، أو أمانات، لا يعرف أربابها، وأيس من معرفتهم، فله الصّدقة بها منهم، أي: من قبلهم.
وقال بعضهم: يجب عليه التّصدّق.
وكذلك الحكم في الدّيون الّتي جهل أربابها عند الحنبلية.
أمّا الأموال الّتي فيها شبهة، فالأولى الابتعاد عنها، ولهذا قال النّوويّ في التّصدّق بما فيه شبهة: إنّه مكروه، وقد ورد في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم: (الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ) (متفق عليه)، وكل ذلك للضرورة وعلى قدرها.
والله تعالى أعلم.
[1] ) ابن عابدين 4-176 وما بعدها.
[2] ) المبسوط 12-109، وكفاية الطالب 2-99، والمقدمات لابن رشد ص 501-502، والمجموع 9-390، ونهاية المحتاج 3-409، والمغني 3-3.
[3] ) المجموع 9-391، ومغني 9-391،
[4] ) المبسوط 12-109-110.
[5] ) أحكام القرآن للجصاص 1-465، وتفسير أبي السعود 1-271، وروح المعاني 4-55.
[6] ) المجموع 9/390، والمغني 3-3، والمقدمات لابن رشد 501-502.
[7] ) الدر المختار 4-176-177.
[8] ) المجموع 10-67.
[9] ) المجموع 9-391، والمغني 4-45-46.
[10] ) رد المحتار 4-188، والاختيار 233.
[11] ) الدر المختار ورد المحتار عليه 4-473، ومجمع الأنهر 4-483.