طفل الأنابيب
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن مسألة طفل الأنابيب من المسائل المستحدثة نسبيا، حيث إنها لم تكن معروفة في العالم قبل سنين ليست طويلة، لعدم تيسرها طبيا، إلا في السنين الأخيرة، وهي مسألة علاجية لحالة مرضية معينة، وذلك عندما يكون الزوجان أو أحدهما عقيما لا ينجب بالطرق الزوجية العادية الطبيعية، وهو أمر طبعي موجود سابقا ولاحقا في كل المجتمعات، وفي كل العصور، بل هو سنة الله تعالى في الأرض، قال سبحانه: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (الشورى:49-50)، ولابد أن يشعر الزوجان العقيمان أو العقيم منهما على الأقل بالحسرة واللوعة، وكثيرا ما أدى ذلك في النهاية إلى الطلاق بينهما، أو الحياة مع القهر والضيق الشديد، وذلك لما للولد من أثر كبير في هناء الأسرة وسعادتها، وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم بقوله سبحانه: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (الكهف:46)، وبسبب ذلك كان البعض من الناس يلجأ لتبني أولاد الغير ذكورا وإناثا، وكان ذلك منتشرا في الجاهلية قبل الإسلام، وهو إلى اليوم موجود لدى بعض الشعوب غير الإسلامية، وربما بعض المسلمين أيضا، وهو حل محفوف بالمخاطر والأضرار الاجتماعية، ولذا حرمه القرآن الكريم بعد نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الأحزاب:4-5).
وقد جاء الطب الحديث -بعد تقدمه تقدما غير مسبوق- بحلول متعددة لمشكلة العقم، ارتضى كثير من أمم العالم أكثرها، أو كلها، وقد عرض هذا الموضوع منذ سنين على هيئات الفتوى في العالم الإسلامي، ثم على المجمع الفقهي التابع لمنظمة العالم الإسلامي في جدة، لبيان حكمه وإصدار الفتوى فيه، من حيث جوازه أو تحريمه، وقد تقدم للمجمع الفقهي عدد من الباحيثن والفقهاء بآراء وبحوث متعددة، لبيان حكم هذه الحلول الطبية المبتكرة، ومن أكمل هذه البحوث بحث لأستاذ العصر والجيل أستاذنا مصطفى الزرقاء رحمه الله تعالى، وقد بينت هذه البحوث الفقهية الرفيعة الحالات الطبية الممكنة المطروحة لعلاج هذه الحالة (حالة عقم الزوج أو الزوجة أو كليهما معا) واختصروها في سبع حالات:
الأولـى: أن تؤخذ نطفة من رجل، وتزرع في مهبل أو رحم زوجته.
والثانية: أن تؤخذ نطفة من رجل، وتزرع في رحم امرأة غير زوجته، سواء كانت ذات زوج أو غير ذات زوج.
والثالثة: أن تؤخذ نطفة من رجل، وتؤخذ بويضة من مبيض زوجته، ويلقحان في مخبار، ثم تزرع اللقحة في رحم زوجة ذلك الرجل صاحبة البويضة نفسها.
والرابعة: أن تؤخذ نطفة من رجل، وبويضة من مبيض امرأة غير زوجته، ثم يلقحان في أنبوب، ثم تزرع اللقحة في رحم زوجة الرجل صاحب النطفة.
والخامسة: أن تؤخذ نطفة من رجل، وبويضة من مبيض امرأة أجنبية عنه، ثم يلقحان في مخبار، ثم تزرع اللقحة في رحم امرأة أجنبية عن الرجل والمرأة.
والسادسة: أن تؤخذ نطفة من رجل، وبويضة مبيض من زوجته، ثم يلقحان في مخبار، ثم تزرع اللقحة في رحم امرأة غريبة عنهما.
والسابعة: أن تؤخذ نطفة من رجل له زوجتان أو أكثر، ثم تؤخذ بويضة من رحم إحدى زوجاته، وتلقحان في مخبار، ثم تزرع اللقحة في رحم إحدى زوجات الرجل غير صاحبة البويضة.
وقد اتفق علماء العصر على حرمة هذه الحالات جميعا عند عدم الضرورة أو الحاجة الماسة، عند تيسر الإنجاب بطرق الاتصال الزوجي الطبيعية، لما في ذلك من محاذير شديدة، منها احتمال اختلاط الأنساب، وكشف العورات أمام الأجانب، وكل ذلك حرام شرعا.
وعليه فإذا تمكن الزوجان من الاتصال والإنجاب بينهما بالطرق الطبيعية، فلا يجوز لأي منهما اللجوء إلى إحدى الطرق السبعة السابقة التي أطلق عليها التلقيح الصناعي، لما في هذه الطرق جميعا من محاذير شرعية تقدمت الإشارة إلى بعضها، ولا يباح شيء منها إلا لضرورة أو حاجة ماسة.
إلا أنه قد اتفق الجميع على أن معالجة العقم في الرجل أو المرأة أو في كليهما، ببعض الطرق السابقة أو غيرها -إذا ما جد جديد في عالم الطب- مباح إذا ما تعذر الإنجاب بينهما بالطرق الطبيعية، بشروط خاصة سوف يأتي بيانها إن شاء الله تعالى، لأته إذا لم يكن من حالات الضرورة فهو من حالات الحاجة التي يباح لها مثل تلك المحظورات الشرعية، وذلك للقواعد الفقهية الكلية التالية: (الضرورات تبيح المحظورات) و (الضرورات تقدر بقدرها) و (الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة).
وعليه فقد اتفق المعاصرون من الفقهاء -من غير خلاف يذكر بينهم إلا آراء قليلة لبعضهم ما لبث أكثرهم أن رجع عنها_ على إباحة الحالتين الأولى والثالثة السابقتين، بشروط وضوابط سوف أشير إليها إن شاء الله تعالى، واتفقوا على تحريم الحالات الثانية والرابعة والخامسة والسادسة، لما فيها من تغيير مؤكد للأنساب، وهو مما لا يباح لضرورة ولا حاجة، أما الحالة السابعة، فقد اختلفوا فيها على رأيين، فذهب البعض إلى إباحتها، ما دامت نطفة الزوج لم تزرع في غير رحم زوجة مباح له جماعها والإنجاب منها، وذهب آخرون إلى تحريمها، لما فيها من إدخال بويضة إلى رحم امرأة أجنبية عن صاحبتها، والراجح في نظري تحريمها، لأن كل زوجة من زوجاته أجنبية عن الأخرى، بدليل أنه لا يجوز لها أن تنظر إلى عورتها، أو أن تساحقها، فلزم من ذلك تحريم زرع بويضتها في رحمها، ثم لما في ذلك من اشتباه الأنساب، حيث لا يمكن الجزم بأن الولد للزوجة صاحبة البويضة، أو للزوجة الأخرى صاحبة الرحم التي احتضنت النطفة الملقحة بها، ولا يغير الحكم في نظري أن الرجل صاحب النطفة هو زوج الزوجتين-صاحبة البويضة وصاحبة الرحم الذي استقبل البويضة الملقحة بنطفة الزوج- لأن ذلك لا يغير حكم أن كل من الزوجتين أجنبية عن الأخرى.
وعلى كل حال فهذا حكم اجتهادي، ليس له دليل قاطع من كتاب كريم أو سنة مطهرة، ولا يجوز أن يعتب أحد من أصحاب هذين الرأيين على أصحاب الرأي الآخر، كما لا يلزمه أن يوافقه على أمر خالف اجتهاده، لاتفاق الفقهاء سلفا وخلفا على عدم جواز الرد على المختلف فيه، بل على المتفق عليه فقط.
شروط إباحة الحالات الثلاث السابقة عند من يقول بها من الفقهاء:
1)) أن يتعذر على الزوجين الإنجاب بطرق الزواج الطبيعية، ويثبت ذلك بالتجربة وأخذ العلاجات لمدة كافية، أو بقول مختص أمين بذلك، وذلك لعدم توفر الحاجة أو الضرورة للإنجاب بالطرق الصناعية، وغناء الطريق الطبيعي عنها.
2)) أن تكون النطفة المأخوذة من الرجل لا تزرع إلا في رحم زوجة له بينه وبينها عقد شرعي مستوف لشروطه الشرعية حالة أخذها منه وحالة زرعها في هذا الرحم.
وعليه فإذا أخذت النطفة من رجل، وزرعت في رحم زوجته التي تزوجها بعد أخذ النطفة منه، أو بعد الزواج، ولكن لم تزرع في رحم زوجته إلا بعد طلاقها منه، أو حفظت بعد أخذها منه وزرعت في رحم زوجته بعد وفاته، لم يجز ذلك، لانقضاء الزوجية بينهما بالطلاق أو الموت، فلا تبقى زوجته، فيكون الزرع في رحم امرأة أجنبية عنه، وكذلك إذا أخذت قبل العقد، لأنها نطفة أجنبية عنها في حينه، وكل ذلك حرام.
3)) أن تكون كل من النطفة والبويضة المزروعتين في الرحم بعد تلقيحهما في مخبار هما من صاحبة الرحم نفسها وزوجها الذي بينه وبينها عقد شرعي حين أخذها منه وزرعها في رحمها، وهو وفق القول الراجح عندي، وليس محل إجماع الفقهاء المعاصرين كما تقدم.
4)) أن يكون الوسيط الذي يقوم بهذه المهمة بين الزوجين من الأمناء على عدم تغيير البويضة و النطفة بغيرهما، ويفضل أن يكون عاملا في مستشفى حومي معروف بالدقة والأمانة.
5)) لا يجوز أن يأخذ البويضة من المرأة إلا امرأة مسلمة إن أمكن، وإلا فامرأة غير مسلمة، فإذا تعذر ذلك فرجل مسلم، فإذا لم يتيسر فرجل من أي دين كان، بشرط الأمانة في الكل كما تقدم.
6)) أن لا يكون لدى الزوجين أو أحدهما طفل شرعي واحد أو أكثر، سواء أنجباه بالطرق الزوجية الطبيعية أو بطريقة طفل الأنابيب، لأن الحاجة تنقضي بوجوده، فيبقى غيره تحسينيا لا حاجيا، والتحسينيات لا تباح من أجلها المحظورات، على خلاف الجاجيات والضروريات، وهذا هو الراجح عندي، وكثير من الفقهاء المعاصرين على خلافه، وأنا أحترم خلافهم، وإن كنت أرى رجحان رأيي في ذلك.
7)) أن يجد الزوجان العقيمان، أو العقيم منهما، رغبة جامحة في الحصول على الولد، وإلا لم يبح الطريق الصناعي للإنجاب، لعدم الحاجة إليه أصلا، وهو وإن كان نادرا في العقيم، إلا أن بعض الناس كذلك.
والله تعالى أعلم.
الخميس 30 محرم 1429هـ و 7/2/2008م
أ.د.أحمد الحجي الكردي
خبير في الموسوعة الفقهية
وعضو هيئة الفتوى في دولة الكويت