الفتوى والمفتون .. في عصر مفتوح
الفتوى والاستفتاء في الشريعة الإسلامية أمران ذوا قيمة عظيمة، فالمفتون كما ذكرهم ابن القيم - رحمه الله - الموقعين عن رب العالمين، لما لهم من عظيم الخطر في توجيه الناس نحو الحلال والحرام ... وهذه المهمة لابدَّ لمن يتصدَّى لها من مفت يكون على قدرها من الشأن، حيث العلم والورع ومراعاة الأحوال والمآلات وغيرها من الضوابط الشرعية ...
التقينا الأستاذ الدكتور/ أحمد الحجي الكردي الخبير بالموسوعة الفقهية الكويتية ، وعضو لجنة الإفتاء بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت لنقف معه عدة وقفات حول هذه المسالة ...
• بداية ما معنى الفتوى ، وما موقف الإسلام من الفتوى والاستفتاء ؟
الفتوى معناها الإخبار بالحكم الشرعي لمن يسأل عنه، وأول المفتين هو الله تعالى: قال سبحانه: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) (النساء: من الآية127)، وكفا بذلك شرفا لمن يتصدى للفتوى من البشر، فالمفتي هو الموقِّع عن الله تعالى والمخبر عن أحكامه، ولكن الفتوى بمقابل شرفها هي مسؤولية كبيرة جدا، ولهذا لا يقوم بها إلا أولوا العزم والقوة من العلماء، فقد روى الدارمي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا قوله: (أَجْرَؤُكم على الفُتْيا أجرؤكم على النار)، وقال في الحديث الصحيح (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)
ولهذا لم يقبل القيام بالفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده غير ثلة قليلة من أصحابه، وكانوا يتدافعون الفتوى بينهم، ويتمنى كل منهم لو أعفي منها وقام به غيره، خوفا من الخطأ فيها .
الفتوى فرض على الكفاية، إذ لا بدّ للمسلمين ممّن يبيّن لهم أحكام دينهم فيما يقع لهم، ولا يُحسن ذلك كلّ أحد، فوجب أن يقوم بها من لديه القدرة عليها.
ولم تكن فرض عين، لأنّها تقتضي تحصيل علوم جمّة، فلو كُلّفها كلّ واحد لأفضى الأمر إلى تعطيل أعمال النّاس ومصالحهم، لانصرافهم إلى تحصيل علوم بخصوصها، وانصرافهم عن غيرها من العلوم النّافعة، وممّا يدلّ على فرضيّتها قول اللّه تبارك وتعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} آل عمران /187 ، وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : «من سئل عن علم ثمّ كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» ، ونقل عن الإمام مالك أنّه ربّما كان يسأل عن خمسين مسألةً فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول: من أجاب فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنّة والنّار، وكيف خلاصه، ثمّ يجيب، وعن الأثرم قال: سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: لا أدري.
واستفتاء العامّيّ الّذي لا يعلم حكم الحادثة واجب عليه، لوجوب العمل حسب حكم الشّرع، ولأنّه إذا أقدم على العمل من غير علم فقد يرتكب الحرام، أو يترك في العبادة ما لا بدّ منه، قال الغزاليّ: العامّيّ يجب عليه سؤال العلماء، لأنّ الإجماع منعقد على أنّ العامّيّ مكلّف بالأحكام.
• فضيلة الشيخ – حفظكم الله – ونحن في عصر مفتوح وهو كما قيل ـ قرية صغيرة ـ من خلال وسائل الاتصال الحديثة من انترنت وقنوات فضائية، وكثر فيها الإفتاء .. ماذا عن الإفتاء المفتوح وتتبع الرخص ؟
بداية نقول : إن الإفتاء بغير علم حرام، لأنّه يتضمّن الكذب على اللّه تعالى ورسوله، ويتضمّن إضلال النّاس، وهو من الكبائر، لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} الأعراف / 33 ، فقرنه بالفواحش والبغي والشّرك، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّه لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتّى إذا لم يبق عالماً اتّخذ النّاس رءوساً جهّالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا» متفق عليه.
من أجل ذلك كثر النّقل عن السّلف إذا سئل أحدهم عمّا لا يعلم أن يقول للسّائل: لا أدري، نقل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنه والقاسم بن محمّد والشّعبيّ ومالك وغيرهم، وينبغي للمفتي أن يستعمل ذلك في موضعه ويُعوّد نفسه عليه، ثمّ إن فعل المستفتي بناءً على الفتوى أمراً محرّماً أو أدّى العبادة المفروضة على وجه فاسد، حمل المفتي بغير علم إثمه، إن لم يكن المستفتي قصّر في البحث عمّن هو أهل للفتيا، وإلاّ فالإثم عليهما، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : «من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه» ، ليس للمفتي تتبّع رخص المذاهب، بأن يبحث عن الأسهل من القولين أو الوجهين ويفتي به، وخاصّةً إن كان يفتي بذلك من يحبّه من صدّيق أو قريب، ويفتي بغير ذلك من عداهم، وقد خطّأ العلماء من يفعل ذلك، نقله الشّاطبيّ عن الباجيّ والخطّابيّ، ونصّ بعض العلماء منهم أبو إسحاق المروزيّ، وابن القيّم على فسق من يفعل ذلك، لأنّ الرّاجح في نظر المفتي هو في ظنّه حكم اللّه تعالى، فتركه والأخذ بغيره لمجرّد اليسر والسّهولة استهانة بالدّين، شبيه بالانسلاخ منه، ولأنّه شبيه برفع التّكليف بالكلّيّة، إذ الأصل أنّ في التّكليف نوعاً من المشقّة، فإن أخذ في كلّ مسألة بالأخفّ لمجرّد كونه أخفّ، فإنّه ما شاء أن يسقط تكليفاً - من غير ما فيه إجماع - إلاّ أسقطه، فيسقط في الزّكاة مثلاً زكاة مال الصّغير، وزكاة مال التّجارة، وزكاة المال وما شابهها، وزكاة كثير من المعشّرات، ويسقط تحريم المتعة، ويجيز النّبيذ، ونحو ذلك، قال أحمد: لو أنّ رجلاً عمل بكلّ رخصة: بقول أهل الكوفة في النّبيذ، وأهل المدينة في السّماع، وأهل مكّة في المتعة، كان فاسقاً، وقال الأوزاعيّ: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام.
• فهل معنى ذلك أن يكون دأب العلماء في الفتيا التشدد على الناس ؟
لم أقل هذا ولكن أقول إن الشّريعة الإسلاميّة شريعة تتميّز بالوسطيّة واليسر، ولذا فالّذي ينبغي للمفتي وهو المخبر عن حكم اللّه تعالى - أن يكون كما قال الشّاطبيّ: المفتي البالغ ذروة الدّرجة هو الّذي يحمل النّاس على الوسط المعهود فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشّدّة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، وهذا هو الصّراط المستقيم الّذي جاءت به الشّريعة، فلا إفراط ولا تفريط، وما خرج عن الوسط مذموم عند العلماء الرّاسخين، وقد ردّ النّبيّ صلى الله عليه وسلمعلى عثمان بن مظعون رضي الله عنه التّبتّل، وقال لمعاذ - رضي الله عنه - لمّا أطال بالنّاس الصّلاة: «يا معاذ أفتّان أنت؟»، ونهاهم عن الوصال، ولأنّه إذا ذهب بالمستفتي مذهب العنت والحرج بغّض إليه الدّين، وإذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنّةً للمشي مع الهوى والشّهوة ، وليس معنى كلامي أن يكون متساهلاً كذلك ، فالتساهل كما ذكر العلماء نوعان : الأوّل: تتبّع الرّخص والشّبه والحيل المكروهة والمحرّمة كما تقدّم ، والثّاني: أن يتساهل في طلب الأدلّة وطرق الأحكام ويأخذ بمبادئ النّظر وأوائل الفكر، فهذا مقصّر في حقّ الاجتهاد، فلا يحلّ له أن يفتي كذلك ما لم تتقدّم معرفته بالمسئول عنه. لكن أجاز بعضهم للمفتي أن يتشدّد في الفتوى لمن هو مقدم على المعاصي متساهل فيها، باحث عن التّيسير والتّسهيل على ما تقتضيه الأدلّة لمن هو مشدّد على نفسه أو غيره، ليكون مآل الفتوى أن يعود المستفتي إلى الطّريق الوسط.
• وماذا يفعل المستفتي إذا وجد أكثر من مفت يفتيه في مسألته التي يريد التحري فيها؟ وماذا إذا اختلفت عليه الأجوبة ؟
إن وجد المستفتي أكثر من عالم، وكلّهم عدل وأهل للفتيا، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المستفتي بالخيار بينهم يسأل منهم من يشاء ويعمل بقوله، ولا يجب عليه أن يجتهد في أعيانهم ليعلم أفضلهم علماً فيسأله، بل له أن يسأل الأفضل إن شاء، وإن شاء سأل المفضول مع وجود الفاضل، واحتجّوا لذلك بعموم قول اللّه تعالى:{فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، وبأن الأوّلين كانوا يسألون الصّحابة مع وجود أفاضلهم وأكابرهم وتمكّنهم من سؤالهم. وإن سأل المستفتي أكثر من مفت، فاتّفقت أجوبتهم، فعليه العمل بذلك إن اطمأن إلى فتواهم ، وإن اختلفوا، فللفقهاء في ذلك طريقان: فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ العامّي ليس مخيّراً بين أقوالهم يأخذ بما شاء ويترك ما شاء، بل عليه العمل بنوع من الترجيح، ثم ذهب الأكثرون منهم إلى أنّ التّرجيح يكون باعتقاد المستفتي في الّذين أفتوه أيّهم أعلم، فيأخذ بقوله، ويترك قول من عداه.
وقال الشّاطبيّ: لا يتخيّر، لأنّ في التّخيير إسقاط التّكليف، ومتى خيّرنا المقلّدين في إتباع مذاهب العلماء لم يبق لهم مرجع إلاّ إتباع الشّهوات والهوى في الاختيار، ولأنّ مبنى الشّريعة على قول واحد، هو حكم اللّه في ذلك الأمر، وقياساً على المفتي: فإنّه لا يحلّ له أن يأخذ بأيّ الرّأيين المختلفين دون نظر في التّرجيح إجماعاً كما تقدّم.
• فضيلة الدكتور .. كلمة أخيرة بخصوص هذا الموضوع ؟
فليتق الله تعالى الجهال، والمضللون، وأصحاب الأهواء، وأرباع العلماء، من الفتوى في دين الله تعالى، فإنها توقيع عن الله سبحانه، ومن ضلل فيها فقد هوى في نار جهنم ، وليحذر عامة الناس من استفتاء الجهال والمضللين الذين لا يخافون الله تعالى، ولا يركنوا لفتاوى من هذا النوع تعجبهم أو تؤمن لهم بعض مصالح غير شرعية، فيقولوا أفتانا فلان، و(حطها برقبة عالم واطلع منها سالم) فهذا خطأ فاحش وضلال بيِّن، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضََكُمْ أَلْحَنُ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا) .
وفي الختام نشكر باسمكم الأستاذ الدكتور/ أحمد الحجي الكردي الخبير بالموسوعة الفقهية الكويتية ، وعضو لجنة الإفتاء بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت ، على هذه الوقفات حول موضوع الفتوى والاستفتاء ، ونستكمل ذلك في لقاءات قادمة بإذن الله تعالى، نسأل الله العلي القدير أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً و يرزقنا اجتنابه ، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الكرام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .