حساب أرباح الشركات
بحث أعده
الأستاذ الدكتور أحمد الحجي الكردي
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
تمهــــيد:
التجارة والصناعة والزراعة معناها العام العمل على تهيئة واستحضار ما ينفع الناس، وما يحتاجونه في معيشتهم، من طعام أو شراب أو لباس أو زينة أو غير ذلك مما يحتاجونه في حياتهم، بقصد توزيعه عليهم، ونقله إليهم، ليرتفقوا به، وينتفعوا منه، ولهذا عدت هذه الأمور من ضروريات المجتمعات كلها عبر التاريخ، فالإنسان بطبيعته يحتاج إلى أشياء كثيرة لاستدامة حياته، ولا يستطيع أن يؤمنها بنفسه كلها، لأن الكثير منها يحتاج إلى إمكانات وخبرات لا تتوفر لكل إنسان، فالمزروعات تحتاج إلى أراض منبتة، وإلى مياه لسقياها، وإلى طرق خاصة لاستنباتها فيها وجنيها منها، وكل ذلك لا يتيسر لكل الناس، وكذلك ما يحتاج إلى صناعة مما يحتاجه الإنسان، فإنه يحتاج إلى خبرات ورأس مال وآلات و...، وهذه لا تتيسر لكل إنسان، وربما توفر في قطر ما شيء منها ولم يتوفر في قطر آخر، والناس في ذلك القطر لا يستطيعون الحصول عليه بغير طريق التجارة، ومن هنا تأتي أهمية التجارة والصناعة والزراعة وأثرها في استدامة الحياة الإنسانية على وجه الأرض، وكلما تقدمت المجتمعات وارتقت في سلم الحضارة كلما ازدادت الحاجة إلى هذه الأمور الثلاثة، ومن هنا نرى أن الإسلام شأنه شأن جميع شرائع الأرض، السماوية منها والوضعية، يدعو للتجارة والصناعة والزراعة، ويحس عليها، وينظمها.
ولكن هذه الأمور على أهميتها وضروريتها للناس، قد تصبح أحيانا مصدر شقاء لهم وضيق، فربما استولى الجشع على القائمين عليها، فاحتكروها ومنعوا الناس منها، بقصد إغلائها عليهم وكثرة أرباحهم منها، ومن هنا نرى أن الحكومات كثيرا ما تتدخل في تنظيم أمور الزراعة والصناعة والتجارة، بقصد منع ذلك الجشع أو الحد منه، وذلك عن طريق معاقبة الجشعين أو التسعير عليهم، أو غير ذلك من الطرق التي تختلف من تشريع لآخر، إلا أن هذه الطرق إذا لم تجر في طريقها الصحيح قد تصبح طريقا لعرقلة هذه الأمور والإضرار بها.
وقد اختلفت آراء الناس ومذاهبهم في أمر التضييق على التجار والصناع والزراع أو التوسعة عليهم في أعمالهم، فمن المذاهب ما يرى التضييق عليهم ومراقبتهم في كل حركاتهم، والتخطيط لهم مسبقا في كل تصرفاتهم، ومن ذلك الاتجاه الشيوعي والاشتراكي، ومنها ما يرى إطلاق يدهم في تجارتهم وصناعتهم وزراعتهم، ومن ذلك المذهب الرأسمالي أو المذهب الحر، وكلا المذهبين له سلبياته وإيجابياته، والاتجاه الإسلامي يتميز بين المذهبين السابقين، بأنه جعل الأصل في التجارة والصناعة والزراعة إطلاق يد التجار والصناع والزراع فيها، ولكن ضمن خطوط حمراء وخطوط صفراء لا يتعدونها ولا يجاوزونها، فتُضمن بذلك مصلحة المجتمع، التي هي الهدف الأول شرعا لمشروعية التجارة والصناعة والزراعة، وهذا هو الاتجاه الذي انتهجه الإسلام فيها، وهو الذي يسر طريقها إلى أبعد حدودها، دون أن يسمح للقائمين عليها بتجاوز مصالح عامة الناس.
فالغاية الأولى من تشريع التجارة والصناعة والزراعة في التشريع الإسلامي خدمة المجتمع، وتأمين مصالحه، لأن المجتمع يحتاج إليها جميعا حاجة شديدة، بل حاجة ضرورية، وليست الغاية الأولى منهما تحصيل الربح لمن يقوم بهذه الأمور، ولما كان تحصيل الربح لا بد منه للقائمين بهذه الأمور للاستمرار فيها بحسب طبيعتهم الإنسانية، أباحه الإسلام لهم، ولكنه جعله غاية ثانوية بعد خدمة المجتمع، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء) (رواه الترمذي).
ولم يحدد الشارع الإسلامي للتجار والصناع والزراع مقدارا معينا من الربح، وترك ذلك للعرف والمصلحة العامة، ولكنه شجعهم على عدم التغالي في الربح، وعدم المبالغة فيه، لأن تحديده سوف يعود عليها بالنقض، ويدفع التجار والصناع والزراع إلى تركها أو الغش فيها، وفي ذلك من الأضرار ما فيه، ولكنه شجع على التيسير في أمور البيع والشراء، توجيها وتشجيعا وترغيبا في الأجر والمثوبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: (رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى) (رواه البخاري)، وجعل الربح الزائد عن المعروف في البلد مكروها ومحاسبا عليه أمام الله تعالى، ولكنه في الوقت نفسه أطلق يد الإمام لتحديد الأسعار إذا غلت ضروريات الناس عن الحد الذي يستطيعه عامتهم، فأجاز له التسعير ومعاقبة التجار الذين يخرجون على ذلك.
طريقة حساب الربح، وأصحاب الحق فيه:
لقد شرع الإسلام لاستثمار المال طرقا متعددة، ولكل منها شروط وضوابط، تضمن استمرار هذه الطرق في طريقها الشرعي في تأمين مصالح المجتمع، دون أن تلحق به ضررا، وتضمن في الوقت نفسه للقائم بهذه الطرق ربحا مناسبا يغريه بالقيام بهذه الطرق والاستمرار فيها، بغية الأجر والمثوبة أولا، وبغية الربح ثانيا، من ذلك البيع، والإجارة، والشركة، والمضاربة، والمزارعة، والمساقاة...
وما دام موضوعنا هذا خاصا بالشركات، فإنني سوف أقصر الكلام عليها في طريقة حساب الربح، وبيان المستحقين له، وطرق توزيعه عليهم.
والربح شرعا هو ما زاد على ثمن الشيء المشترى للتجارة بسبب بيعه، (الخلاصة الفقهية للقروي 1/169)، وقال ابن قدامة في المغني: (الربح هو الفاضل عن رأس المال، وما لم يفضل فليس بربح، ولا نعلم في هذا خلافا) (المغني 5/169)، وجاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية: (الرِّبْحَ هُوَ نَمَاءُ رَأْسِ الْمَالِ وَمَنْفَعَتُهُ) (درر الحكام 2/410).
وعليه فعلى أرباب المال أو الشركاء في الشركة، تجارية كانت أو صناعية أو....، أن يحسبوا -عندما يريدون معرفة ربحهم، لاقتسامه أو التصرف فيه أو غير ذلك، سواء كان ذلك بعد شهر من بدء عملهم أو سنة أو عشر سنوات أو غير ذلك- أن يحسبوا قيمة شركتهم بكل ما فيها من ثوابت ومتحركات مما اشتروه برأس المال الذي دفعوه في ذلك، وذلك بحسب سعر اليوم الذي يجري فيه الحساب والتقويم، سواء كان السعر مرتفعا عن يوم الشراء أو نازلا عنه، ثم يحسموا منه مقدار رأس المال الذي دفعوه بحسب قيمته يوم دفعوه، فإذا فضل بعد ذلك فاضل فهو الربح، وإذا كانت قيمة موجودات الشركة أقل من رأس المال فهو الخسارة.
وتقويم أموال الشركة لبيان الربح والخسارة واستخراج الربح منها -إن وجد- أو لحل الشركة، حق لكل شريك فيها، فله أن يطلبه في كل وقت يرى في نفسه الحاجة إليه، سواء حدد الشركاء مسبقا موعدا معينا لذلك أولا، لأن الشركة كما يقول الفقهاء عقد غير لازم، قال الكمال ابن الهمام في الفتح: (عقد الشركة عقد غير لازم، فإن لكل منهما أن يفسخه إذا شاء) (فتح القدير 6/156).
ولكن إذا طلب أحد الشركاء حساب الربح فيها لقبضه أو لحل الشركة أو لأي غاية كان، وكان حساب ذلك يضر بمصالحها، وجب على طالب التقويم أو الحل للشركة انتظار مدة مناسبة لزوال سبب الضرر، ولا يجوز إنظاره أكثر من ذلك، وعند الاختلاف يحدد القاضي المدة المناسبة باجتهاده، وذلك للقاعدة الفقهية الكلية، وهي نص حديث شريف: (لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجه.
ورأس المال عند حسابه يدخل فيه كل ما أنفق في هذه الشركة، تجارية كانت أو صناعية أو زراعية، من قيمة المشتريات التي دخلت فيها، ونقلها، وأجور العمال في تصنيعها، وإقامة الأبنية وشراء الآلات والتأثيث و..... وذلك بحسب قيمة ذلك في يوم الحصول عليه، سواء كان من الثوابت، كالبناء أو الآلات أو سيارات النقل أو....، أو كان من المتحركات، كالبضائع والمواد الأولية والنقود من أي عملة كان و....، ويجب الانتباه إلى أن بعض ممتلكات الشركة قد يهبط ثمنه بالاستعمال والقِدم تلقائيا، ولو لم تتغير الأسعار في البلد، كالبناء والآلات وسيارات النقل و... وبعضها لا يتغير غالبا إلا إذا تغيرت الأسعار، كالبضائع والعملات و....، وكل ذلك يحسب حسابه عند التقويم، فيقدر بسعر يومه، فإذا اتفق الشركاء على ذلك كله فبحسب اتفاقهم، وإذا اختلفوا حكَّموا ذوي الخبرة والدراية من الأمناء، وأخذوا بقولهم، فإذا لم يرضهم ذلك، أو لم يرض البعض منهم ذلك، رفعوا أمرهم إلى القاضي، فيقدره بحسب خبرته أو بالاستعانة بأهل الخبرة الأمناء، ويلزمهم بما انتهى إليه حكمه.
ولا يجوز العدول عن هذا المبدأ في تقدير الربح الحقيقي وتبيُّنه، إلى ربح حكمي يقاس بأرباح الشركات الأخرى، كما يحصل في بعض البيئات أو المجتمعات، توقيا للإساءة –في زعمهم- إلى هذه المؤسسات أو الإضرار بها، أو غير ذلك، لأن فيه تغييرا للحقيقة، وتضييعا على صاحب الحق حقه، ومجافاة للحقيقة، وتعدٍ على مبدأ التنافس الشريف الحر بين المؤسسات الاستثمارية، وكل ذلك ممنوع شرعا.
فإذا ظهرت أرباح الشركة بالطرق السابقة، ووفق شروطها، وطلب أحد الشركاء أرباحه، أعطيت إليه جبرا عنهم جميعا، وإذا طلب حل الشركة أو الخروج منها لزمهم قبول ذلك، والاستجابة إليه، لأن الشركة عقد غير لازم –كما تقدم-، فإما أن يبيعوا الشركة كلها ويقتسموا ثمنها كل على قدر حصته من الربح ورأس المال، وإما أن يشتروا منه حصته بما يتفق عليه بينهم، فيخرج هو ويبقوا هم على حالهم، ثم إن اشترى حصته أحدُهم أو بعضهم حل المشتري محل البائع في حصته الشركة، وإن اشتروها جميعا كانت الحصة لهم جميعا بحسب اتفاقهم.
ولا يجوز للشركاء أن يمنعوا عن أحدهم حصته في الربح إذا طلبها بعد تبيُّنها، لأي سبب كان، مهما كان نوع الشركة، لأنه حقه، ومنع صاحب الحق حقه ظلم وحرام، إلا لضرورة، كما إذا كان دفع ربحه له فورا غير ممكن، كعدم توفر السيولة اللازمة في الشركة مثلا، ورفض أخذ ربحه عروضا من عروض الشركة، فلهم في هذه الحال تأخير ذلك مدة قليلة حتى تزول الضرورة، ويمكن دفع ربحه له، فإذا اتفقوا على هذه المدة فبحسب اتفاقهم، وإذا اختلفوا في ذلك رفع الأمر للقاضي لتحديده بما يراه.
إلا أن بعض الشركات المعاصرة أو كلها تقريبا، تخالف بعض هذه الأحكام، وتقضي في آخر كل عام -بعد تقويم الشركة وحساب أرباحها- بتأخير تسليم الأرباح أو بعضها إلى المساهمين فيها، رغم انتظارهم لها وطلبهم تسلمها، بدعوى الحاجة إلى تحويلها أو تحويل بعضها إلى عام قادم، وجعلها مبالغ احتياطية للوقاية من قلة الأرباح في العام القادم، أو انعدامها، أو حصول خسارة فيها، أو أن توزيعها يضر ببعض الشركات الأخرى التي لم تحقق أرباحا مثلها، أو غير ذلك من المبررات، وربما قضت بعض البنوك المركزية بوجوب ذلك، وهو في نظري مخالف للأحكام الشرعية، لأن تسليم الربح لمستحقه من الشركاء عند طلبه له واجب، ومنعه منه حرام، لأن الشريك قد يخرج من الشركة قبل حلول العام القادم، فيخسر ربحه المستحق له بسبب ذلك، ويستحقه غيره ممن دخل في الشركة من جديد، وهو أمر ممنوع شرعا بغير رضا من صاحبه، ولا أظنه يرضى بذلك، وكيف يرضى بالتنازل عن حقه لغيره بدون سند شرعي يقضي بذلك.
ربما أجاب البعض عن ذلك بأن حق هذا الشريك الطالب للربح، بعد منعه منه وتأخيره إلى عام قادم، لا يلحق به خسارة حقيقية، لأن قيمة حصته في الشركة سوف تزيد بذلك، فيكون في ذلك تعويضا له عن ربحه الممنوع عنه.
ولكن ذلك غير مسلم، لأن الشريك قد يكون بحاجة إلى ربحه فورا لأمور لا تقبل التأجيل.
ثم إن كان ذلك التأخير لا يضر به حقيقة على الوجه المتقدم، فهو ضار بالمودعين غير الشركاء، الذين يضاربون في هذه الشركة ببعض أموالهم، وربما كانت أموال المودعين في بعض الشركات أكبر من حصص الشركاء فيها، فهؤلاء المودعين تتغير مدخراتهم كل يوم تقريبا، أو كل شهر، أو كل سنة، فيخسرون ما منع عنهم من الربح ونقل إلى غيرهم من الشركاء في الشركة، وهو حرام، وأكل لأموال الناس بالباطل.
الملحق الأول
الَتسْعِــــيرٌ
التَّعْرِيفُ:
التَّسْعِيرُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ تَقْدِيرُ السِّعْر، يُقَال: سَعََّّرْتُ الشَّيْءَ تَسْعِيرًا: أَيْ جَعَلْتُ لَهُ سِعْرًا مَعْلُومًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَسَعَّرُوا تَسْعِيرًا: أَيِ: اتَّفَقُوا عَلَى سِعْرٍ، وَالسِّعْرُ مَأْخُوذٌ مِنْ سَعَّرَ النَّارَ إِذَا رَفَعَهَا، لأَِنَّ السِّعْرَ يُوصَفُ بِالاِرْتِفَاعِ[1].
وَالتَّسْعِيرُ فِي اِصْطِلاَحِ الفقهاء: تَقْدِيرُ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ لِلنَّاسِ سِعْرًا، وَإِجْبَارُهُمْ عَلَى التَّبَايُعِ بِمَا قَدَّرَهُ، وَقَال ابْنُ عَرَفَةَ: حَدُّ التَّسْعِيرِ تَحْدِيدُ حَاكِمِ السُّوقِ لِبَائِعِ الْمَأْكُول فِيهِ قَدْرًا لِلْمَبِيعِ بِدِرْهَمٍ مَعْلُومٍ، وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: التَّسْعِيرُ أَنْ يَأْمُرَ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ أَوْ كُل مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَمْرًا أَهْل السُّوقِ أَلاَّ يَبِيعُوا أَمْتِعَتَهُمْ إِلاَّ بِسِعْرِ كَذَا، فَيَمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ أَوِ النُّقْصَانِ إِلاَّ لِمَصْلَحَةٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّسْعِيرِ:
اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ الأَْصْل فِي التَّسْعِيرِ هُوَ الْحُرْمَةُ، أَمَّا جَوَازُ التَّسْعِيرِ فَمُقَيَّدٌ عِنْدَهُمْ بِشُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ يَأْتِي بَيَانُهَا.
وَاسْتَدَل صَاحِبُ الْبَدَائِعِ لإِِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ بِالْمَنْقُول مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:
أ أَمَّا الْكِتَابُ الكريم: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}[2]، فَاشْتَرَطَتِ الآْيَةُ الكريمة في البيع التَّرَاضِيَ، وَالتَّسْعِيرُ قد لا يَتَحَقَّقُ فيِهِ التَّرَاضِي.
وَأَمَّا السُّنَّةُ الشريفة: فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: (لاَ يَحِل مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ)[3].
وَاسْتَدَل صَاحِبُ الْمُغْنِي بِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: (غَلاَ السِّعْرُ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال النَّاسُ: يَا رَسُول اللَّهِ: غَلاَ السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، إِنِّي لأََرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ)[4]. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالدَّلاَلَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
1 - أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُسَعِّرْ، وَقَدْ سَأَلُوهُ ذَلِكَ، وَلَوْ جَازَ لأََجَابَهُمْ إِلَيْهِ.
2 - أَنَّهُ عَلَّل بِكَوْنِهِ مَظْلَمَةً وَالظُّلْمُ حَرَامٌ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَبِيعُ زَبِيبًا لَهُ فِي السُّوقِ، فَقَال لَهُ: إِمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي السِّعْرِ، وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ مِنْ سُوقِنَا، فَلَمَّا رَجَعَ عُمَرُ حَاسَبَ نَفْسَهُ، ثُمَّ أَتَى حَاطِبًا فِي دَارِهِ، فَقَال لَهُ: إِنَّ الَّذِي قُلْتُ لَكَ لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ مِنِّي وَلاَ قَضَاءٍ، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَرَدْتُ بِهِ الْخَيْرَ لأَِهْل الْبَلَدِ، فَحَيْثُ شِئْتَ فَبِعْ، وَكَيْفَ شِئْتَ فَبِعْ.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُول: وَهُوَ أَنَّ لِلنَّاسِ حُرِّيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَالتَّسْعِيرُ حَجْرٌ عَلَيْهِمْ، وَالإِْمَامُ مَأْمُورٌ بِرِعَايَةِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ نَظَرُهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُشْتَرِي بِرُخْصِ الثَّمَنِ أَوْلَى مِنْ نَظَرِهِ لِمَصْلَحَةِ الْبَائِعِ بِتَوْفِيرِ الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ حَقُّ.
ثُمَّ إِنَّ التَّسْعِيرَ سَبَبُ الْغَلاَءِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ فِي أَمْوَالِهِمْ ؛ لأَِنَّ الْجَالِبِينَ إِذَا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ لَمْ يَقْدُمُوا بِسِلَعِهِمْ بَلَدًا يُكْرَهُونَ عَلَى بَيْعِهَا فِيهِ بِغَيْرِ مَا يُرِيدُونَ، وَمَنْ عِنْدَهُ الْبِضَاعَةُ يَمْتَنِعُ مِنْ بَيْعِهَا وَيَكْتُمُهَا، وَيَطْلُبُهَا أَهْل الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، فَلاَ يَجِدُونَهَا إِلاَّ قَلِيلاً، فَيَرْفَعُونَ فِي ثَمَنِهَا لِيَصِلُوا إِلَيْهَا، فَتَغْلُو الأَْسْعَارُ وَيَحْصُل الإِْضْرَارُ بِالْجَانِبَيْنِ، جَانِبِ الْمُشْتَرِين فِي مَنْعِهِم مِنَ الْوُصُول إِلَى غَرَضِهِم، وَجَانِبِ الْمُلاَّكِ فِي مَنْعِهِمْ مِنْ بَيْعِ أَمْلاَكِهِمْ، فَيَكُونُ حَرَامًا.
شُرُوطُ جَوَازِ التَّسْعِيرِ:
تَقَدَّمَ أَنَّ الأَْصْل مَنْعُ التَّسْعِيرِ، وَمَنْعُ تَدَخُّل وَلِيِّ الأَْمْرِ فِي أَسْعَارِ السِّلَعِ، إِلاَّ أَنَّ هُنَاكَ حَالاَتٍ يَكُونُ لِلْحَاكِمِ بِمُقْتَضَاهَا حَقُّ التَّدَخُّل بِالتَّسْعِيرِ، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّدَخُّل عَلَى اخْتِلاَفِ الأَْقْوَال، وَهَذِهِ الْحَالاَتُ هِيَ:
أ - تَعَدِّي أَرْبَابِ الطَّعَامِ عَنِ الْقِيمَةِ تَعَدِّيًا فَاحِشًا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ صَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ إِنْ تَعَدَّى أَرْبَابُ الطَّعَامِ عَنِ الْقِيمَةِ تَعَدِّيًا فَاحِشًا، وَعَجَزَ عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ بِالتَّسْعِيرِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَشُورَةِ أَهْل الرَّأْيِ وَالْبَصِيرَةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَبِهِ يُفْتَى؛ لأَِنَّ فِيهِ صِيَانَةَ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الضَّيَاعِ، وَدَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ الْعَامَّةِ، وَالتَّعَدِّي الْفَاحِشُ كَمَا عَرَّفَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَغَيْرُهُ هُوَ الْبَيْعُ بِضِعْفِ الْقِيمَةِ.
ب - حَاجَةُ النَّاسِ إِلَى السِّلْعَةِ: وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ، إِلاَّ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ دَفْعُ ضَرَرِ الْعَامَّةِ، كَمَا اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وُجُودَ مَصْلَحَةٍ فِيهِ، وَنُسِبَ إِلَى الشَّافِعِيِّ مِثْل هَذَا الْمَعْنَى، وَكَذَا إِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى سِلاَحٍ لِلْجِهَادِ، فَعَلَى أَهْل السِّلاَحِ بَيْعُهُ بِعِوَضِ الْمِثْل، وَلاَ يُمَكَّنُونَ مِنْ أَنْ يَحْبِسُوا السِّلاَحَ حَتَّى يَتَسَلَّطَ الْعَدُوُّ، أَوْ يُبْذَل لَهُمْ مِنَ الأَْمْوَال مَا يَخْتَارُونَ، وَيَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُكْرِهَ النَّاسَ عَلَى بَيْعِ مَا عِنْدَهُمْ بِقِيمَةِ الْمِثْل عِنْدَ ضَرُورَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ، مِثْل مَنْ عِنْدَهُ طَعَامٌ لاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَالنَّاسُ فِي مَخْمَصَةٍ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ لِلنَّاسِ بِقِيمَةِ الْمِثْل، وَلِهَذَا قَال الْفُقَهَاءُ: مَنْ اضْطُرَّ إِلَى طَعَامِ الْغَيْرِ أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ بِقِيمَةِ مِثْلِهِ، وَلَوِ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ إِلاَّ بِأَكْثَرَ مِنْ سِعْرِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ إِلاَّ سِعْرَهُ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الْعِتْقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: (مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ).[5] وَيَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ هَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَقْوِيمِ الْجَمِيعِ (أَيْ جَمِيعِ الْعَبْدِ) قِيمَةَ الْمِثْل هُوَ حَقِيقَةُ التَّسْعِيرِ، فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ يُوجِبُ إِخْرَاجَ الشَّيْءِ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ بِعِوَضِ الْمِثْل لِمَصْلَحَةِ تَكْمِيل الْعِتْقِ، وَلَمْ يُمَكِّنِ الْمَالِكَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْقِيمَةِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ بِالنَّاسِ إِلَى التَّمَلُّكِ أَعْظَمَ، مِثْل حَاجَةِ الْمُضْطَرِّ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِهِ.
ج - احْتِكَارُ الْمُنْتِجِينَ أَوِ التُّجَّارِ: فلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الاِحْتِكَارَ حَرَامٌ فِي الأَْقْوَاتِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ جَزَاءَ الاِحْتِكَارِ هُوَ بَيْعُ السِّلَعِ الْمُحْتَكَرَةِ جَبْرًا عَلَى صَاحِبِهَا بِالثَّمَنِ الْمَعْقُول مَعَ تَعْزِيرِهِ وَمُعَاقَبَتِهِ، وَمَا تَحْدِيدُ الثَّمَنِ الْمَعْقُول مِنْ جَانِبِ وَلِيِّ الأَْمْرِ إِلاَّ حَقِيقَةُ التَّسْعِيرِ، وَهَذَا تَوْجِيهٌ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، فِي حِينِ اعْتَبَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُحْتَكِرَ مِمَّنْ لاَ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ.
د - حَصْرُ الْبَيْعِ لأُِنَاسٍ مُعَيَّنِينَ: صَرَّحَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِأَنَّهُ لاَ تَرَدُّدَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ
الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ رَدِّ التَّسْعِيرِ فِي حَالَةِ إِلْزَامِ النَّاسِ أَنْ لاَ يَبِيعَ الطَّعَامَ أَوْ غَيْرَهُ إِلاَّ أُنَاسٌ مَعْرُوفُونَ، فَهُنَا يَجِبُ التَّسْعِيرُ عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ لاَ يَبِيعُونَ إِلاَّ بِقِيمَةِ الْمِثْل، وَلاَ يَشْتَرُونَ إِلاَّ بِقِيمَةِ الْمِثْل، لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ مَنَعَ غَيْرَهُمْ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ النَّوْعَ أَوْ يَشْتَرِيَهُ، فَلَوْ سَوَّغَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا بِمَا اخْتَارُوا، أَوْ يَشْتَرُوا بِمَا اخْتَارُوا لَكَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا لِلْبَائِعِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بَيْعَ تِلْكَ الأَْمْوَال، وَظُلْمًا لِلْمُشْتَرِينَ مِنْهُمْ.
فَالتَّسْعِيرُ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالَةِ وَاجِبٌ بِلاَ نِزَاعٍ، وَحَقِيقَةُ إِلْزَامِهِمْ أَنْ لاَ يَبِيعُوا أَوْ لاَ يَشْتَرُوا إِلاَّ بِثَمَنِ الْمِثْل.
هـ - تَوَاطُؤُ الْبَائِعِينَ ضِدَّ الْمُشْتَرِينَ أَوِ الْعَكْسِ: إِذَا تَوَاطَأَ التُّجَّارُ أَوْ أَرْبَابُ السِّلَعِ عَلَى سِعْرٍ يُحَقِّقُ لَهُمْ رِبْحًا فَاحِشًا، أَوْ تَوَاطَأَ مُشْتَرُونَ عَلَى أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيمَا يَشْتَرِيهِ أَحَدُهُمْ حَتَّى يَهْضِمُوا سِلَعَ النَّاسِ، يَجِبُ التَّسْعِيرُ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَأَضَافَ قَائِلاً: وَلِهَذَا مَنَعَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ - كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ - الْقُسَّامَ الَّذِينَ يَقْسِمُونَ بِالأَْجْرِ أَنْ يَشْتَرِكُوا، فَإِنَّهُمْ إِذَا اشْتَرَكُوا، وَالنَّاسُ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ أَغَلَوْا عَلَيْهِمُ الأَْجْرَ، فَمَنْعُ الْبَائِعِينَ - الَّذِينَ تَوَاطَئُوا عَلَى أَنْ لاَ يَبِيعُوا إِلاَّ بِثَمَنٍ
قَدَّرُوهُ - أَوْلَى، وَكَذَلِكَ مَنْعُ الْمُشْتَرِينَ إِذَا تَوَاطَؤُوا عَلَى أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيمَا يَشْتَرِيهِ أَحَدُهُمْ، حَتَّى يَهْضِمُوا سِلَعَ النَّاسِ أَوْلَى، لأَِنَّ إِقْرَارَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُعَاوَنَةٌ لَهُمْ عَلَى الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَقَدْ قَال تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[6].
و - احْتِيَاجُ النَّاسِ إِلَى صِنَاعَةِ طَائِفَةٍ: وَهَذَا مَا يُقَال لَهُ التَّسْعِيرُ فِي الأَْعْمَال، وَهُوَ أَنْ يَحْتَاجَ النَّاسُ إِلَى صِنَاعَةِ طَائِفَةٍ، كَالْفِلاَحَةِ وَالنِّسَاجَةِ وَالْبِنَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُلْزِمَهُمْ بِذَلِكَ بِأُجْرَةِ الْمِثْل إِذَا امْتَنَعُوا عَنْهُ، وَلاَ يُمَكِّنُهُمْ مِنْ مُطَالَبَةِ النَّاسِ بِزِيَادَةٍ عَنْ عِوَضِ الْمِثْل، وَلاَ يُمَكِّنَ النَّاسَ مِنْ ظُلْمِهِمْ بِأَنْ يُعْطُوهُمْ دُونَ حَقِّهِمْ.
وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْحَالاَتِ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ حَصْرًا لِلْحَالاَتِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا التَّسْعِيرُ، بَل كُلَّمَا كَانَتْ حَاجَةُ النَّاسِ لاَ تَنْدَفِعُ إِلاَّ بِالتَّسْعِيرِ، وَلاَ تَتَحَقَّقُ مَصْلَحَتُهُمْ إِلاَّ بِهِ، كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْحَاكِمِ حَقًّا لِلْعَامَّةِ، مِثْل وُجُوبِ التَّسْعِيرِ عَلَى الْوَالِي عَامَ الْغَلاَءِ كَمَا قَال بِهِ مَالِكٌ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا.
الصِّفَةُ الْوَاجِبُ تَوَافُرُهَا فِي التَّسْعِيرِ:
إِنَّ الْمُتَتَبِّعَ لِلنُّصُوصِ الْفِقْهِيَّةِ وَآرَاءِ الْفُقَهَاءِ يَجِدُ أَنَّهُ لاَ بُدَّ لِفَرْضِ التَّسْعِيرِ مِنْ تَحَقُّقِ صِفَةِ الْعَدْل؛ إِذْ لاَ يَكُونُ التَّسْعِيرُ مُحَقِّقًا لِلْمَصْلَحَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ لِلْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ، وَلاَ يَمْنَعُ الْبَائِعَ رِبْحًا، وَلاَ يُسَوِّغُ لَهُ مِنْهُ مَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ، وَلِهَذَا اشْتَرَطَ مَالِكٌ عِنْدَمَا رَأَى التَّسْعِيرَ عَلَى الْجَزَّارِينَ أَنْ يَكُونَ التَّسْعِيرُ مَنْسُوبًا إِلَى قَدْرِ شِرَائِهِمْ، أَيْ أَنْ تُرَاعَى فِيهِ ظُرُوفُ شِرَاءِ الذَّبَائِحِ، وَنَفَقَةُ الْجِزَارَةِ، وَإِلاَّ فَإِنَّهُ يُخْشَى أَنْ يُقْلِعُوا عَنْ تِجَارَتِهِمْ، وَيَقُومُوا مِنَ السُّوقِ، وَهَذَا مَا أَعْرَبَ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ مِنْ أَنَّ التَّسْعِيرَ بِمَا لاَ رِبْحَ فِيهِ لِلتُّجَّارِ يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ الأَْسْعَارِ، وَإِخْفَاءِ الأَْقْوَاتِ وَإِتْلاَفِ أَمْوَال النَّاسِ.
كَيْفِيَّةُ التَّسْعِيرِ:
تَعَرَّضَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّسْعِيرِ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ تَعْيِينِ الأَْسْعَارِ، وَقَالُوا: يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يَجْمَعَ وُجُوهَ أَهْل سُوقِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَيُحْضِرَ غَيْرَهُمُ اسْتِظْهَارًا عَلَى صِدْقِهِمْ، وَأَنْ يُسَعِّرَ بِمَشُورَةِ أَهْل الرَّأْيِ وَالْبَصِيرَةِ، فَيَسْأَلَهُمْ كَيْفَ يَشْتَرُونَ وَكَيْفَ يَبِيعُونَ؟ فَيُنَازِلُهُمْ إِلَى مَا فِيهِ لَهُمْ وَلِلْعَامَّةِ سَدَادٌ حَتَّى يَرْضَوْا بِهِ.
قَال أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ بِهَذَا يُتَوَصَّل إِلَى مَعْرِفَةِ مَصَالِحِ الْبَاعَةِ وَالْمُشْتَرِينَ، وَيَجْعَل لِلْبَاعَةِ فِي ذَلِكَ مِنَ الرِّبْحِ مَا يَقُومُ بِهِمْ، وَلاَ يَكُونُ فِيهِ إِجْحَافٌ بِالنَّاسِ، وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَقُول لَهُمْ: لاَ تَبِيعُوا إِلاَّ بِكَذَا رَبِحْتُمْ أَوْ خَسِرْتُمْ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى مَا يَشْتَرُونَ بِهِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَقُول لَهُمْ: لاَ تَبِيعُوا إِلاَّ بِمِثْل الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَيْتُمْ بِهِ.
مَا يَدْخُلُهُ التَّسْعِيرُ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الأَْشْيَاءِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا التَّسْعِيرُ عَلَى الأَْصْل الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي حُكْمِهِ التَّكْلِيفِيّ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ - وَهُوَ قَوْل الْقُهُسْتَانِيِّ الْحَنَفِيِّ - إِلَى أَنَّ التَّسْعِيرَ يَجْرِي فِي الْقُوتَيْنِ (قُوتِ الْبَشَرِ، وَقُوتِ الْبَهَائِمِ) وَغَيْرِهِمَا، وَلاَ يَخْتَصُّ بِالأَْطْعِمَةِ وَعَلَفِ الدَّوَابِّ.
وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ - بِنَاءً عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحَجْرِ لِلضَّرَرِ، وَقَوْل أَبِي يُوسُفَ فِي الاِحْتِكَارِ - جَوَازَ تَسْعِيرِ مَا عَدَا الْقُوتَيْنِ أَيْضًا، كَاللَّحْمِ وَالسَّمْنِ رِعَايَةً لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ صَرَّحَ بِهِ الْعَتَّابِيُّ وَالْحَسَّاسُ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ أَنَّ التَّسْعِيرَ يَكُونُ فِي الْقُوتَيْنِ فَقَطْ.
وابْنِ تَيْمِيَّةَ، َلَمْ يَقْصُرِ التَّسْعِيرَ عَلَى الطَّعَامِ، بَل ذَكَرَهُ َمِثَالاٍ كَمَا سَبَقَ.
وَانْتَهَجَ ابْنُ الْقَيِّمِ مَنْهَجَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَطْلَقَ جَوَازَ التَّسْعِيرِ لِلسِّلَعِ أَيًّا كَانَتْ، مَا دَامَتْ لاَ تُبَاعُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ، وَبِقِيمَةِ الْمِثْل.
وَأَوْجَبَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إِلْزَامَ أَهْل السُّوقِ الْمُعَاوَضَةَ بِثَمَنِ الْمِثْل، وَقَال: إِنَّهُ لاَ نِزَاعَ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إِلاَّ بِهَا، كَالْجِهَادِ، ثُمَّ يَقُول صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: وَهُوَ إِلْزَامٌ حَسَنٌ فِي مَبِيعٍ ثَمَنُهُ مَعْلُومٌ بَيْنَ النَّاسِ لاَ يَتَفَاوَتُ، كَمَوْزُونٍ وَنَحْوِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ كَذَلِكَ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يَكُونُ التَّسْعِيرُ فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ فَقَطْ، طَعَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ فَلاَ يُمْكِنُ تَسْعِيرُهُ لِعَدَمِ التَّمَاثُل فِيهِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ حَبِيبٍ، قَال أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: هَذَا إِذَا كَانَ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونُ مُتَسَاوِيَيْنِ، أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا، لَمْ يُؤْمَرْ صَاحِبُ الْجَيِّدِ أَنْ يَبِيعَهُ بِمِثْل سِعْرِ مَا هُوَ أَدْوَنُ، لأَِنَّ الْجَوْدَةَ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ كَالْمِقْدَارِ.
الْقَوْل الثَّانِي: يَكُونُ التَّسْعِيرُ فِي الْمَأْكُول فَقَطْ وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَرَفَةَ.
مَنْ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ وَمَنْ لاَ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ:
مَنْ يُسَعَّرُ عَلَيْهِمْ هُمْ أَهْل الأَْسْوَاقِ، وَأَمَّا مَنْ لاَ يُسَعَّرُ عَلَيْهِمْ فَهُمْ:
أَوَّلاً: الْجَالِبُ:
فقد ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، إِلَى أَنَّ الْجَالِبَ لاَ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ، إِلاَّ إِذَا خِيفَ الْهَلاَكُ عَلَى النَّاسِ، فَيُؤْمَرُ الْجَالِبُ أَنْ يَبِيعَ طَعَامَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَدَمُ جَوَازِ التَّسْعِيرِ عَلَى الْجَالِبِ،
وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، يُسَعَّرُ عَلَيْهِ فِيمَا عَدَا الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ، وَأَمَّا جَالِبُهُمَا فَيَبِيعُ كَيْفَ شَاءَ، وَكَذَلِكَ جَالِبُ الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَاللَّحْمِ وَالْبَقْل وَالْفَوَاكِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَرِيهِ أَهْل السُّوقِ مِنَ الْجَالِبِينَ، فَهَذَا أَيْضًا لاَ يُسَعَّرُ عَلَى الْجَالِبِ، وَلاَ يُقْصَدُ بِالتَّسْعِيرِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْل السُّوقِ عَلَى سِعْرٍ قِيل لَهُ: إِمَّا أَنْ تَلْحَقَ بِهِ، وَإِلاَّ فَاخْرُجْ.
ثَانِيًا: الْمُحْتَكِرُ:
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُسَعَّرُ عَلَى الْمُحْتَكِرِ، بَل يُؤْمَرُ بِإِخْرَاجِ طَعَامِهِ إِلَى السُّوقِ، وَيَبِيعُ مَا فَضَل عَنْ قُوتِ سَنَةٍ لِعِيَالِهِ كَيْفَ شَاءَ، وَلاَ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانُوا تُجَّارًا، أَمْ زُرَّاعًا لأَِنْفُسِهِمْ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُجْبَرُ الْمُحْتَكِرُ عَلَى بَيْعِ مَا احْتَكَرَ وَلاَ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ، وَيُقَال لَهُ: بِعْ كَمَا يَبِيعُ النَّاسُ، وَبِزِيَادَةٍ يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا، وَلاَ أَتْرُكُهُ يَبِيعُ بِأَكْثَرَ.
ثَالِثًا: مَنْ يَبِيعُ فِي غَيْرِ دُكَّانٍ:
قَال صَاحِبُ التَّيْسِيرِ: لاَ يُسَعَّرُ عَلَى مَنْ يَبِيعُ فِي غَيْرِ دُكَّانٍ وَلاَ حَانُوتٍ يَعْرِضُ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَلاَ عَلَى بَائِعِ الْفَوَاكِهِ وَالذَّبَائِحِ وَجَمِيعِ أَهْل الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ، وَالْمُتَسَبَّبِينَ مِنْ حَمَّالٍ وَدَلاَّلٍ وَسِمْسَارٍ وَغَيْرِهِمْ، وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْوَالِي أَنْ يَقْبِضَ مِنْ أَهْل كُل صَنْعَةٍ ضَامِنًا أَمِينًا، وَثِقَةً، وَعَارِفًا بِصَنْعَتِهِ خَبِيرًا بِالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ مِنْ حِرْفَتِه،ِ يَحْفَظُ لِجَمَاعَتِهِ مَا يَجِبُ أَنْ يَحْفَظَ مِنْ أُمُورِهِمْ، وَيُجْرِيَ أُمُورَهُمْ عَلَى مَا يَجِبُ أَنْ تَجْرِيَ، وَلاَ يَخْرُجُونَ عَنِ الْعَادَةِ فِيمَا جَرَتْ فِيهِ الْعَادَةُ فِي صَنْعَتِهِمْ.
أَمْرُ الْحَاكِمِ بِخَفْضِ السِّعْرِ وَرَفْعِهِ مُجَارَاةً لأَِغْلَبِ التُّجَّارِ:
قَال الْبَاجِيُّ: السِّعْرُ الَّذِي يُؤْمَرُ مَنْ حَطَّ عَنْهُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ هُوَ السِّعْرُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ، فَإِذَا انْفَرَدَ عَنْهُمُ الْوَاحِدُ أَوِ الْعَدَدُ الْيَسِيرُ بِحَطِّ السِّعْرِ، أُمِرَ مَنْ حَطَّهُ بِاللَّحَاقِ بِسِعْرِ النَّاسِ أَوْ تَرَكَ الْبَيْعَ، وَإِنْ زَادَ فِي السِّعْرِ وَاحِدٌ أَوْ عَدَدٌ يَسِيرٌ لَمْ يُؤْمَرِ الْجُمْهُورُ بِاللَّحَاقِ بِسِعْرِهِ، أَوِ الاِمْتِنَاعِ مِنَ الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ مَنْ بَاعَ بِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ لَيْسَ بِالسِّعْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَلاَ بِمَا تُقَامُ بِهِ الْمَبِيعَاتُ، وَإِنَّمَا يُرَاعِي فِي ذَلِكَ حَال الْجُمْهُورِ وَمُعْظَمَ النَّاسِ.
مُخَالَفَةُ التَّسْعِيرِ، وحُكْمُ الْبَيْعِ مَعَ مُخَالَفَةِ التَّسْعِيرِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنبليَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ - إِلَى أَنَّ مَنْ خَالَفَ التَّسْعِيرَ صَحَّ بَيْعُهُ؛ إِذْ لَمْ يُعْهَدِ الْحَجْرُ عَلَى الشَّخْصِ فِي مِلْكِهِ أَنْ يَبِيعَ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ. وَلَكِنْ إِذَا سَعَّرَ الإِْمَامُ وَخَافَ الْبَائِعُ أَنْ يُعَزِّرَهُ الإِْمَامُ لَوْ نَقَصَ عَمَّا سَعَّرَهُ، فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَحِل لِلْمُشْتَرِي الشِّرَاءُ بِمَا سَعَّرَهُ الإِْمَامُ؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُكْرِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُول: بِعْنِي بِمَا تُحِبُّ، لِيَصِحَّ الْبَيْعُ، وَصِحَّةُ الْبَيْعِ مَعَ مُخَالَفَةِ التَّسْعِيرِ مُتَبَادَرٌ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُمْ يَقُولُونَ: وَمَنْ زَادَ فِي سِعْرٍ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ أُمِرَ بِإِلْحَاقِهِ بِسِعْرِ النَّاسِ، فَإِنْ أَبَى أُخْرِجَ مِنَ السُّوقِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بُطْلاَنُ الْبَيْعِ، لَكِنْ عِنْدَ الْحَنَبلِيَةِ إِنْ هَدَّدَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ الْمُخَالِفَ لِلتَّسْعِيرِ بَطَل الْبَيْعُ؛ لأَِنَّهُ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِنَوْعِ مَصْلَحَةٍ؛ وَلأَِنَّ الْوَعِيدَ إِكْرَاهٌ.
عُقُوبَةُ الْمُخَالِفِ:
صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الإِْمَامَ لَهُ أَنْ يُعَزِّرَ مَنْ خَالَفَ التَّسْعِيرَ الَّذِي رَسَمَهُ؛ لِمَا فِيهِ من مُجَاهَرَةُ الإِْمَامِ بِالْمُخَالَفَةِ.
وَسُئِل أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ مُتَوَلِّي الْحِسْبَةِ إِذَا سَعَّرَ الْبَضَائِعَ بِالْقِيمَةِ، وَتَعَدَّى بَعْضُ السُّوقِيَّةِ، فَبَاعَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ، هَل لَهُ أَنْ يُعَزِّرَهُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ: إِذَا تَعَدَّى السُّوقِيُّ وَبَاعَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ يُعَزِّرُهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَدْرُ التَّعْزِيرِ، وَكَيْفِيَّتُهُ، فَمُفَوَّضٌ إِلَى الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَبْسَ أَوِ الضَّرْبَ، أَوِ الْعُقُوبَةَ الْمَالِيَّةَ، أَوِ الطَّرْدَ مِنَ السُّوقِ وَغَيْرَ ذَلِكَ.
هَذَا كُلُّهُ فِي الْحَالاَتِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا التَّسْعِيرُ، أَمَّا حَيْثُ لاَ يَجُوزُ التَّسْعِيرُ عِنْدَ مَنْ لاَ يَرَاهُ، فَلاَ عُقُوبَةَ عَلَى مُخَالِفِ التَّسْعِيرِ.
الملحق الثاني
الاحتكـــــار
التّعريف:
الاحتكار لغةً: حبس الطّعام إرادة الغلاء، والاسم منه الحكرة[7].
أمّا في الشّرع فقد عرّفه الحنفيّة بأنّه: اشتراء طعام ونحوه وحبسه إلى الغلاء.
وعرّفه المالكيّة بأنّه رصد الأسواق انتظاراً لارتفاع الأثمان.
وعرّفه الشّافعيّة بأنّه اشتراء القوت وقت الغلاء، وإمساكه وبيعه بأكثر من ثمنه للتّضييق.
وعرّفه الحنبلية بأنّه اشتراء القوت وحبسه انتظاراً للغلاء.
الحكم التكليفي للاحتكار:
يتّفق الفقهاء على أنّ الاحتكار بالقيود الّتي اعتبرها كلّ منهم محظور، لما فيه من الإضرار بالنّاس، والتّضييق عليهم.
وقد اختلفت عبارات الفقهاء في التّعبير عن هذا الحظر:
فجمهور الفقهاء صرّحوا بالحرمة، مستدلّين بقوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْم}[8] فقد فهم منها صاحب الاختيار أنّها أصل في إفادة التّحريم، وقد ذكر القرطبيّ عند تفسيره هذه الآية الكريمة: أنّ أبا داود روى عن يعلى بن أميّة أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال: «احتكار الطّعام في الحرم إلحاد فيه»[9] وهو قول عمر بن الخطّاب.
واستدلّ الكاسانيّ على ذلك بحديث: «المحتكر ملعون»[10].
وحديث: «من احتكر طعاماً أربعين ليلةً فقد برئ من اللّه، وبرئ اللّه منه»[11] ثمّ قال الكاسانيّ: ومثل هذا الوعيد لا يلحق إلاّ بارتكاب الحرام، ولأنّه ظلم، لأنّ ما يباع في المصر فقد تعلّق به حقّ العامّة، فإذا امتنع المشتري عن بيعه عند شدّة حاجتهم إليه فقد منعهم حقّهم، ومنع الحقّ عن المستحقّ ظلم وحرام، يستوي في ذلك قليل المدّة وكثيرها، لتحقّق الظّلم.
كما اعتبره ابن حجر الهيتميّ من الكبائر، ويقول: إنّ كونه كبيرةً هو ظاهر الأحاديث من الوعيد الشّديد، كاللّعنة وبراءة ذمّة اللّه ورسوله منه والضّرب بالجذام والإفلاس، وبعض هذه دليل على الكبيرة.
وممّا استدلّ به الحنبلية على التّحريم ما روى الأثرم عن أبي أمامة، قال: «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يحتكر الطّعام»[12]، وما روي بإسناده عن سعيد بن المسيّب أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «من احتكر فهو خاطئ»[13]، وما روي: أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه خرج مع أصحابه، فرأى طعاماً كثيراً قد ألقي على باب مكّة، فقال: ما هذا الطّعام؟ فقالوا: جلب إلينا، فقال: بارك اللّه فيه وفيمن جلبه، فقيل له: فإنّه قد احتكر، قال: من احتكره؟ قالوا: فلان مولى عثمان، وفلان مولاك، فاستدعاهما، وقال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «من احتكر على المسلمين طعامهم لم يمت حتّى يضربه اللّه بالجذام أو الإفلاس»[14].
لكن أكثر فقهاء الحنفيّة وبعض الشّافعيّة عبّروا عنه بالكراهة إذا كان يضرّ بالنّاس، وتصريح الحنفيّة بالكراهة على سبيل الإطلاق ينصرف إلى الكراهة التّحريميّة، وفاعل المكروه تحريماً عندهم يستحقّ العقاب، كفاعل الحرام، كما أنّ كتب الشّافعيّة الّتي روت عن بعض الأصحاب القول بالكراهة قد قالوا عنه: ليس بشيء.
الحكمة في تحريم الاحتكار:
يتّفق الفقهاء على أنّ الحكمة في تحريم الاحتكار رفع الضّرر عن عامّة النّاس، ولذا فقد أجمع العلماء على أنّه لو احتكر إنسان شيئاً، واضطرّ النّاس إليه، ولم يجدوا غيره، أجبر على بيعه دفعاً للضّرر عن النّاس، وتعاوناً على حصول العيش.
وهذا ما يستفاد ممّا نقل عن مالك رحمه الله تعالى من أنّ رفع الضّرر عن النّاس هو القصد من التّحريم، إذ قال: إن كان ذلك لا يضرّ بالسّوق فلا بأس، وهو ما يفيده كلام الجميع.
ما يجري فيه الاحتكار:
هناك ثلاث اتّجاهات:
الاتجاه الأوّل: ما ذهب إليه أبو حنيفة ومحمّد والشّافعيّة والحنابلة أنّه لا احتكار إلاّ في القوت خاصّةً.
الاتّجاه الثّاني: أنّ الاحتكار يجري في كلّ ما يحتاجه النّاس، ويتضرّرون من حبسه، من قوت وإدام ولباس وغير ذلك، وهذا ما ذهب إليه المالكيّة وأبو يوسف من الحنفيّة.
الاتّجاه الثّالث: أنّه لا احتكار إلاّ في القوت والثّياب خاصّةً، وهذا قول لمحمّد بن الحسن.
واستدلّ الجمهور -أصحاب الاتّجاه الأوّل- بأنّ الأحاديث الواردة في هذا الباب بعضها عامّ، كالحديث الّذي رواه مسلم وأبو داود عن سعيد بن المسيّب عن معمر بن عبد اللّه أنّه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من احتكر فهو خاطئ»، وفي رواية أخرى رواها مسلم وأحمد: «لا يحتكر إلاّ خاطئ»، وحديث أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من احتكر حكرةً يريد أن يغلّي بها على المسلمين فهو خاطئ» وزاد الحاكم: «وقد برئت منه ذمّة اللّه».
فهذه نصوص عامّة في كلّ محتكر، وقد وردت نصوص أخرى خاصّة، منها حديث ابن ماجه بسنده: «من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه اللّه بالجذام والإفلاس»[15]، وما رواه أحمد والحاكم وابن أبي شيبة والبزّار وأبو يعلى بلفظ: «من احتكر الطّعام أربعين ليلةً فقد برئ من اللّه وبرئ اللّه منه»[16] وزاد الحاكم: «وأيّما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمّة اللّه».
وإذا اجتمعت نصوص عامّة وأخرى خاصّة في مسألة واحدة حمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد.
واستدلّ المالكيّة وأبو يوسف بالأحاديث العامّة، وقالوا: إنّ ما ورد من النّصوص الخاصّة فهو من قبيل اللّقب، واللّقب لا مفهوم له.
وأمّا ما ذهب إليه محمّد بن الحسن في قوله الثّاني، فإنّه حمل الثّياب على القوت باعتبار أنّ كلاً منهما من الحاجات الضّروريّة.
ما يتحقّق به الاحتكار:
يتحقّق الاحتكار في صور بعضها متّفق على تحريمها وهي ما إذا اجتمع فيه كون الشّيء المحتكر طعاماً وأن يحوزه بطريق الشّراء وأن يقصد الإغلاء على النّاس وأن يترتّب على ذلك الإضرار والتّضييق عليهم، وهناك صور مختلف في تحريمها بحسب الشّروط.
شروط الاحتكار:
يشترط في الاحتكار ما يأتي:
أ - أن يكون تملّكه للسّلعة بطريق الشّراء، وهذا ما ذهب إليه الجمهور، وذهب بعض المالكيّة، وهو منقول عن أبي يوسف من الحنفيّة، إلى أنّ العبرة إنّما هي باحتباس السّلع بحيث يضرّ بالعامّة، سواء أكان تملّكها بطريق الشّراء، أو الجَلب، أو كان ادّخاراً لأكثر من حاجته ومن يعول.
وعلى ما ذهب إليه الجمهور لا احتكار فيما جلب مطلقاً، وهو ما كان من سوق غير سوق المدينة، أو من السّوق الّذي اعتادت المدينة أن تجلب طعامها منه.
ويرى كلّ من صاحب الاختيار وصاحب البدائع أنّه إذا كان من سوق اعتادت المدينة أن تجلب طعامها منه، فاشتراه قاصداً حبسه، يكون محتكراً، ويتفرّع على اشتراط الشّراء لتحقّق الاحتكار أنّ حبس غلّة الأرض المزروعة لا يكون احتكاراً، وهذا هو رأي الجمهور، وهناك من علماء المالكيّة من اعتبر حبس هذه الغلّة من قبيل الاحتكار.
ومن علماء الحنفيّة من يرى - أيضاً - أنّ هذا رأي لأبي يوسف.
وقد نقل الرّهونيّ عن الباجيّ أنّ ابن رشد قال: إذا وقعت الشّدّة أمر أهل الطّعام بإخراجه مطلقاً، ولو كان جالباً له، أو كان من زراعته، والمعتمد ما أفاده ابن رشد.
ب - أن يكون الشّراء وقت الغلاء للتّجارة انتظاراً لزيادة الغلاء، وهذا ما ذهب إليه الشّافعيّة، فلو اشترى في وقت الرّخص، وحبسه لوقت الغلاء، فلا يكون احتكاراً عندهم.
ج - واشترط الحنفيّة أن يكون الحبس لمدّة، ولم نقف لفقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على كلام في هذا، وإنّما الّذي تعرّض لذكر المدّة فقهاء الحنفيّة، فيقول الحصكفيّ نقلاً عن الشرنبلالي عن الكافي: إنّ الاحتكار شرعاً اشتراء الطّعام ونحوه وحبسه إلى مدّة اختلفوا في تقديرها، فمن قائل إنّها أربعون يوماً، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والحاكم بسنده: «من احتكر الطّعام أربعين ليلةً فقد برئ من اللّه وبرئ اللّه منه» لكن حكى ابن أبي حاتم عن أبيه أنّه منكر، ومن قائل إنّها شهر، لأنّ ما دونه قليل عاجل والشّهر وما فوقه كثير آجل.
ويقع التّفاوت في المأثم بين أن يتربّص قلّة الصّنف، وبين أن يتربّص القحط.
وقيل إنّ هذه المدد للمعاقبة في الدّنيا، أمّا الإثم الأخرويّ فيتحقّق وإن قلّت المدّة.
وقد أورد الحصكفيّ هذا الخلاف، وأضاف إليه أنّ من الفقهاء من قال بأكثر من المدّتين، وقد نقل ذلك ابن عابدين في حاشيته.
د - أن يكون المحتكر قاصداً الإغلاء على النّاس وإخراجه لهم وقت الغلاء.
احتكار العمل:
تعرّض بعض الفقهاء لمثل هذا، لا على أنّه من قبيل الاحتكار الاصطلاحيّ، ولكن فيه معنى الاحتكار، لما فيه من ضرر العامّة، فقد نقل ابن القيّم أنّ غير واحد من العلماء، كأبي حنيفة وأصحابه، منعوا القسّامين - الّذين يقسمون العقار وغيره بالأجرة - أن يشتركوا، فإنّهم إذا اشتركوا والنّاس يحتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجرة، وكذلك ينبغي لوالي الحسبة أن يمنع مغسّلي الموتى والحمّالين لهم من الاشتراك، لما في ذلك من إغلاء الأجرة عليهم، وكذلك اشتراك كلّ طائفة يحتاج النّاس إلى منافعهم.
احتكار الصّنف:
وقد صوّره ابن القيّم بقوله: أن يلزم النّاس ألاّ يبيع الطّعام أو غيره من الأصناف إلاّ ناس معروفون، فلا تباع تلك السّلع إلاّ لهم، ثمّ يبيعونها هم بما يريدون، فهذا من البغي في الأرض والفساد بلا تردّد في ذلك عند أحد من العلماء، ويجب التّسعير عليهم، وأن يبيعوا ويشتروا بقيمة المثل منعاً للظّلم.
وكذلك إيجار الحانوت على الطّريق أو في القرية بأجرة معيّنة على ألاّ يبيع أحد غيره، نوع من أخذ أموال النّاس قهراً وأكلها بالباطل، وهو حرام على المؤجّر والمستأجر.
العقوبة الدّنيويّة للمحتكر:
اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الحاكم يأمر المحتكر بإخراج ما احتكر إلى السّوق وبيعه للنّاس، فإن لم يمتثل فهل يجبر على البيع؟ في هذه المسألة تفصيل وخلاف بين الفقهاء:
أوّلاً: إذا خيف الضّرر على العامّة أجبر، بل أخذ منه ما احتكره، وباعه، وأعطاه المثل عند وجوده، أو قيمته، وهذا قدر متّفق عليه بين الأئمّة، ولا يعلم خلاف في ذلك.
ثانياً: إذا لم يكن هناك خوف على العامّة، فالمالكيّة والشّافعيّة والحنبلية ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة يرون أنّ للحاكم جبره إذا لم يمتثل الأمر بالبيع، وأمّا أبو حنيفة وأبو يوسف فيريان أنّه لا يجبر على البيع، وإنّما إذا امتنع عن البيع عزّره الحاكم.
وعند من يرى الجبر فمنهم من يرى الجبر بادئ ذي بدء، ومنهم من يرى الإنذار مرّةً، وقيل اثنتين، وقيل ثلاثاً.
وتدلّ النّقول عن الفقهاء أنّ هذه المسألة مرجعها مراعاة المصلحة، وهو من قبيل السّياسة الشّرعيّة.
الجمعة 18 صفر 1430هـ و 13/2/2009م
أ.د.أحمد الحجي الكردي
خبير في الموسوعة الفقهية
وعضو هيئة الفتوى في دولة الكويت
[1] المصباح المنير، ومختار الصحاح، والقاموس المحيط، ولسان العرب، وأساس البلاغة مادة: " سعر "، والنظم المستعذب في شرح غريب المهذب 1 / 292 ط مصطفى البابي الحلبي.
[2] سورة النساء 29
[3] أخرجه أحمد.
[4] أخرجه أبو داود.
[5] أخرجه البخاري ومسلم.
[6] سورة المائدة 2.
[7] المصباح المنير،واللسان مادة (حكر).
[8] سورة الحج 22.
[9] أخرجه أبو داود .
[10] رواه ابن ماجه والحاكم.
[11] رواه أحمد والبزار وأبو يعلى.
[12] رواه عبد الرزاق بمعناه.
[13] رواه مسلم.
[14] أخرجه ابن ماجه وأحمد.
[15] أخرجه ابن ماجه وأحمد والحاكم.
[16] مجمع الزوائد.