يتأهب كثير من الناس للسفر في مثل هذه الأيام من كل عام منهم من يسافر لزيارة أهله في بلدهم التي يقيمون فيها، ومنهم من يسافر للاستشفاء مثلا، أو التنفيس عن كرب، أو زيارة صديق، أو مواساة مصاب، أو عيادة مريض، أو غير ذلك من المصالح، ومنهم من يسافر لغرض آخر في نفسه لا يرضي الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذه الأسفار السابقة المباحة والواجبة لها من الآداب التي يجب على كل مسلم أن يتحلى بها ليكون سفير خير لدينه وبلده في البلد المسَافر إليها.. التقينا فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الحجي الكردي - الخبير في الموسوعة الفقهية الكويتية وعضو هيئة الفتوى بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت ؛ لنقف معه على بعض محطات السفر ، التي يجب على كل مسافر أن يعرفها ..
• بداية .. ما حكم السفر، وما أهميته وحاجة الناس إليه؟
السّفر لغةً قطع المسافة البعيدة، وسمّي السّفر سفراً لأنّه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم، فيظهر ما كان خافياً. والسفر في الاصطلاح الشرعي: الخروج من البلد على قصد قطع مسافة القصر الشّرعيّة فما فوقها، وهي عند أكثر الفقهاء ما يزيد على 85 كم.
وقد قسّم الفقهاء السّفر من حيث حكمه إلى ثلاثة أقسام: سفر طاعة وقربة إلى الله تعالى، كالحجّ والجهاد، وسفر مباح كالتّجارة، وسفر معصية كقطع الطّريق، وحجّ المرأة بلا محرم ، ومثَّل الشّافعيّة للسّفر المكروه بالّذي يسافر وحده، وسفر الاثنين أخفّ كراهةً، وذلك لخبر أحمد وغيره: «كره النّبيّ صلى الله عليه وسلم الوحدة في السّفر»، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الرّاكب شيطان والرّاكبان شيطانان والثّلاثة ركب» ، وقد صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ السّفر لرؤية البلاد والتّنزّه فيها مباح، وهو ما يسمى في عرفنا بالسياحة.
والسفر بمعناه العام الشامل لكل أنواعه ودواعيه من الأهمية بمكان في حياة الفرد والجماعة، فهو الطريق الأهم للتعرف على ما عند الآخرين من علوم وغيرها والاستفادة منها، وهو الطريق الأهم أيضا لتوطيد العلاقة مع الأمم الأخرى، وصهرها في أمة واحدة، وبخاصة الأمة الإسلامية، التي فرض الله تعالى أن تكون أمة واحدة، في قوله سبحانه: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92)، ومنه نفهم أيضا معنى دعوة الله سبحانه المسلمين للرحلة في طلب العلم في قوله سبحانه: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122)، فقد حملها كثير من المفسرين على الرحلة في طلب العلم، إشادة به وبضروريته للأمة الإسلامية.
• وما فضل السياحة في الأرض، والتأمل في عجائب الكون؟
السياحة في عرف العصر السفر بقصد النزهة والراحة والاطلاع على معالم البلدان الأخرى وأهلها، والتعرف على طبائعهم، ولغاتهم، واهتماماتهم، وهي بذلك نوع من السفر المباح في الأصل، قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (النحل:36). فإذا لم تنتهك فيها المحرمات، ولم تضيع فيها الواجبات، ولم يكن فيها إسراف وتبذير، فهي على أصل الإباحة، وربما كانت مندوبة أو مستحبة، عندما تدعو إليها حاجة، أو يترتب عليها مصلحة.
• للسفر فوائد عدة، نرجو التوضيح فضيلة الدكتور ؟
للسفر فوائد ومضار، إذا أُحسن استغلاله عاد بفوائده على المسافر وأهله، وإذا ما أسيء استخدامه عاد بأوخم العواقب، فهو على ذلك سلاح ذو حدين، يستعمل في الخير وفي الشر. ففي السفر التعرف على الأمم وطبائعها وعلومها ولغاتها ونظمها وأعرافها، وكل ذلك يعود بخير عميم على المسافر وعلى أمته، قال تعالى في بيان بعض فوائد السفر: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)(المزمل: من الآية20). وقد يكون في السفر التفلت من أحكام الله تعالى، والتقصير في الواجبات الدينية والأسرية، والتبذير في الأموال وتضييعها بغير فائدة أو معنى شرعي، وكل ذلك من المحرمات.
• السفر يسفر عن معادن الرجال، ثم إن أصناف الناس وأخلاقهم في السفر تختلف... فهل من تعليق؟
جاء في كلام الفلاسفة والعقلاء قولهم: (السفر يسفر عن الأخلاق، أو عن أخلاق الرجال) وذلك لما فيه من مشقة وكلفة ومخاطر وصعوبات تحتاج إلى أن يساعد بعض الناس بعضا، وهنا تظهر القيم والأخلاق، فمن حسنت أخلاقه وقيمه بذل في مساعدة الآخرين الغالي والنفيس، ومن ساءت أخلاقه عاش كَلاَّ على الآخرين، يأخذ ولا يعطي، وقد جاء رجل إلى عمر بن الخطاب(رضي الله عنه)، وقال: يا أمير المؤمنين! أدرك الناس، فإن شهادة الزور قد تفشت في العراق، فأمر أن لا تقبل شهادة مجهول إلا بشاهدين يزكيان هذا الشاهد أنه صدوق وعدل، فكان عمر إذا جاءه إنسان ليزكي إنساناً يقول له: هل تعرفه؟ فيقول: نعم، فيقول له: هل بينك وبينه رحم؟ فيقول: لا، فيقول له: هل بينك وبينه معاملة في الدرهم والدينار؟ فيقول: لا، فيقول: هل سافرت معه؟ فيقول: لا، فيقول له: اذهب فأنت لا تعرفه.
• وماذا عن مساوئ السفر؟ وماذا عن مخالفات السفر الشرعية؟
السفر كما يقول الحكماء: قطعة من العذاب، وذلك لما فيه من مشاق ومتاعب ومخاطر، ولهذا لا يقوى عليه إلا الأقوياء من الرجال، هذا في السابق قبل تقدم الوسائل، ومن هنا منع الله تعالى المرأة من السفر مع غير زوج أو ذي محرم من الرجال، وقاية لها من المخاطر التي قد تضعف عن احتمالها، وهو كذلك أيضا رغم تقدم الوسائل، من سيارات وطائرات وبواخر وغير ذلك من وسائل السفر المريحة والآمنة، وإن قلت المخاطر والمتاعب بسبب ذلك التقدم العلمي، ولهذا أناط الله تعالى بالسفر مجموعة من الرخص، تيسيرا على المكلفين، وتخفيفا عنهم من وعثاء السفر ومتاعبه، وسوف يأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى. وبما أن السفر يعني الابتعاد عن الأهل والوطن، فإن بعض الناس يستغل ذلك للوقوع في مخالفات دينية وأخلاقية، ما كان ليقع فيها بين أهله وقومه، مثل الزنا، ورفع الحجاب، والكذب، والاحتيال، وربما السرقة أيضا، وهذا نوع من الغباء والحمق يأنفه العقلاء، ولا يقع فيه إلا الأغبياء من الناس، لأن الالتزام بالأخلاق والمثل العليا لا يكون من العاقل خوفا من الناس، ولكن طمعا فيما عند الله تعالى من الأجر، وبعدا عن عذابه سبحانه وعقابه، والله تعالى مطلع على عمل الإنسان أينما كان، وحيثما رحل.
• السفر في الزمن الحاضر كيف تراه فضيلتكم؟
السفر في السابق هو السفر في الحاضر نفسه، لا يختلف عنه في مضمونه وأهدافه، ولا في منافعه ومضاره، ولا في مخاطره ومفاجآته، وإن كانت المخاطر الآن أقل، والمتاعب أقل، وذلك بسبب التقدم العلمي الذي وفر للمسافرين وسائل لم تكن متوفرة من سابق، إلا أن ذلك كله لا يمنع المخاطر كلها، ولا يحول دون المتاعب كلها، ولهذا يبقى مخوفا، ولا يقدم عليه العقلاء إلا إذا جدت لهم فيه مصلحة أو منفعة غالبة، أو دعت إليه ضرورة.
• وماذا عن بعض الآداب التي يجب أن يتحلى بها الإنسان أثناء سفره ؟
لِلسَّفَرِ آدَابٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا:
1)) يَنْبَغِي للمسافر أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَيَخْرُجَ مِنْ مَظَالِمِ الْخَلْقِ، وَيَقْضِيَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ دُيُونِهِمْ عليه، وَيَرُدَّ الْوَدَائِعَ لأصحابها إن كان قد استودعه أحد شيئا، وَيَسْتَحِل كُل مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُعَامَلَةٌ فِي شَيْءٍ أَوْ مُصَاحَبَةٌ، وَيَكْتُبَ وَصِيَّتَهُ وَيُشْهِدَ عَلَيْهَا، وَيُوَكِّل مَنْ يَقْضِي مَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ قَضَائِهِ مِنْ دُيُونِهِ، وَيَتْرُكَ نَفَقَةً لأَِهْلِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ إِلَى حِينِ رُجُوعِهِ.
2)) وَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَسْتَخِيرَ اللَّهَ تَعَالَى قبل سفره، فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ غَيْرَ الْفَرِيضَةِ، في غير وقت الكراهة، ثُمَّ يَدْعُوَ بِدُعَاءِ الاِسْتِخَارَةِ.
3)) وَيَنْبَغِي إِرْضَاءُ وَالِدَيْهِ وَمَنْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ بِرُّهُ وَطَاعَتُهُ.
4)) ويُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَافِقَ فِي سَفَرِهِ مَنْ هُوَ مُوَافِقٌ رَاغِبٌ فِي الْخَيْرِ كَارِه لِلشَّرِّ، إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَافِقَ فِي سَفَرِهِ جَمَاعَةً.
5)) ويُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَإِنْ فَاتَهُ فَيَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَأَنْ يَكُونَ بَاكِرًا. ودليل الْخَمِيسِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ: (أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ) أخرجه البخاري، وَفِي رِوَايَةٍ: (أَقَل مَا كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ إِلاَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ).
6)) وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُسَافِرِ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَنْزِلِهِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي الأُْولَى {قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّانِيَةِ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
7)) ويُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَدِّعَ أَهْلَهُ وَجِيرَانَهُ وَأَصْدِقَاءَهُ وَسَائِرَ أَحْبَابِهِ وَأَنْ يُوَدِّعُوهُ، وَيَقُول كُل وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ، زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى وَغَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ وَيَسَّرَ الْخَيْرَ لَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ 8)) ويُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَمِّرَ الرُّفْقَةُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَفْضَلَهُمْ وَأَجْوَدَهُمْ رَأْيًا وَيُطِيعُونَهُ.
9)) ويُسْتَحَبُّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُكَبِّرَ إِذَا صَعِدَ الثَّنَايَا وَشَبَهَهَا، وَيُسَبِّحَ إِذَا هَبَطَ الأَْوْدِيَةَ وَنَحْوَهَا، وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ(رضي الله عنه) قَال: (كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا) أخرجه البخاري.
10)) وَيُسْتَحَبُّ إِذَا أَشْرَفَ عَلَى قَرْيَةٍ يُرِيدُ دُخُولَهَا أَوْ مَنْزِلٍ أَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ أَهْلِهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا.
11)) ويُسْتَحَبُّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَدْعُوَ الله تعالى فِي سَفَرِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْوْقَاتِ، لأَِنَّ دَعْوَتَهُ مُجَابَةٌ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ) أخرجه الترمذي.
12)) ومن السُّنَّةُ لِلْمُسَافِرِ إِذَا قَضَى حَاجَتَهُ أَنْ يُعَجِّل الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّل إِلَى أَهْلِهِ) أخرجه البخاري، وَيُكْرَهُ أَنْ يَطْرُقَ أَهْلَهُ طُرُوقًا بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَهُوَ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِمْ فِي اللَّيْل، بَل السُّنَّةُ أَنْ يَقْدَمَ أَوَّل النَّهَار،ِ وَإِلاَّ فَفِي آخِرِهِ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ(رضي الله عنه) قَال: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَطْرُقُ أَهْلَهُ، وَكَانَ لاَ يَدْخُل إِلاَّ غُدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً) أخرجه البخاري.
• هل يرخص للمسافر في شيء من التكاليف الشرعية في أثناء سفره؟
السَّفَرُ في الشريعة الإسلامية مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ الْمُكْتَسَبَةِ، وَهُوَ لاَ يُنَافِي شَيْئًا مِنْ أَهْلِيَّةِ الأَْحْكَامِ وُجُوبًا وَأَدَاءً مِنَ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، فَلاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ شَيْءٍ مِنَ الأَْحْكَامِ نَحْوِ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، لِبَقَاءِ الْقُدْرَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِكَمَالِهَا، لَكِنَّهُ جُعِل فِي الشَّرْعِ مِنْ أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا - يَعْنِي مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْمَشَقَّةِ أَوْ غَيْرَ مُوجِبٍ لَهَا - لأَِنَّ السَّفَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَشَقَّةِ فِي الْغَالِبِ، فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ السَّفَرِ نفسه سَبَبًا لِلرُّخَصِ، وَأُقِيمَ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ، للقاعدة الفقهية الكلية: (إذا كانت علة الحكم غير ظاهرة أو غير منضبطة ألغيت وأنيط الحكم بما هو مظنة لها).لا أن للسفر المثبت للرخص شروطا لا بد من توافرها فيه، فإذا لم تتوافر في المسافر كلها لم يرخص له في شيء، وأهم شروط السفر المثبت للرخص ما يلي:
أ - أَنْ يَبْلُغَ الْمَسَافَةَ الْمُحَدَّدَةَ شَرْعًا، وهي لا تقل عن /85/ كم في أغلب أقوال الفقهاء، سواء كان السفر في البر أو البحر أو الجو.
ب - الْقَصْدُ: فقد اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ قَصْدُ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّفَرِ، فَلاَ قَصْرَ وَلاَ فِطْرَ لِهَائِمٍ عَلَى وَجْهِهِ لاَ يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجَّهُ، وَلاَ لِتَائِهٍ ضَال الطَّرِيقِ، وَلاَ لِسَائِحٍ لاَ يَقْصِدُ مَكَانًا مُعَيَّنًا، وَكَذَا لَوْ خَرَجَ أَمِيرٌ مَعَ جَيْشِهِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ وَلَمْ يَعْلَمْ أَيْنَ يُدْرِكُهُمْ، فَإِنَّهُ يُتِمُّ وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ أَوِ الْمُكْثُ، وَمِثْلُهُ طَالِبُ غَرِيمٍ وَآبِقٍ يَرْجِعُ مَتَى وَجَدَهُ وَلاَ يَعْلَمُ مَوْضِعَهُ، وَإِنْ طَال سَفَرُهُ.
ج - مُفَارَقَةُ مَحِل الإِْقَامَةِ: حيث يُشْتَرَطُ فِي السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ مُفَارَقَةُ بُيُوتِ الْمِصْرِ الذي يقيم فيه، فَلاَ يَصِيرُ مُسَافِرًا قَبْل الْمُفَارَقَة، ولا يكفي خروجه من منزله.
د - أَلاَّ يَكُونَ سَفَرَه في مَعْصِيَةٍ الله تعالى، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وذهب البعض إلى مجاوزة هذا الشرط، والترخيص لكل مسافر إذا استوفى في سفره الشروط السابقة.
• ما هي الرخص الشرعية الثابتة للمسافر في سفره؟
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَغَيَّرُ فِي السَّفَرِ لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْمُسَافِرِ كثيرة أهمها:أ - امْتِدَادُ مُدَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ: فقد ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ السَّفَرَ يَمُدُّ مُدَّةَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ من يوم وليلة للمقيم إِلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا للمسافر .
ب - قَصْرُ الصَّلاَةِ وَجَمْعُهَا: فقد أَجْمَعُ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَصْرِ الصَّلاَةِ فِي السَّفَرِ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ السَّفَرَ مِنَ الأَْعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِجَمْعِ الصَّلَوَاتِ.
ج - سُقُوطُ وُجُوبِ صلاة الْجُمُعَةِ: فقد اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْقَامَةَ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ، وَعَلَى هَذَا فَلاَ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْمُسَافِرِ، ولكن يصلي بدلا منها الظهر، ولو صلى الجمعة جاز.
د - التَّنَفُّل عَلَى الرَّاحِلَةِ: فلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ التَّنَفُّل عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ، ومثله السيارة والطائرة والباخرة، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ) متفق عليه.
هـ - جَوَازُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ بِشُرُوطِهِ السَّابِقَةِ هُوَ مِنَ الأَْعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِلْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، فَيَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَ فِي رَمَضَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
• ما هي كلمتكم الأخيرة للمسافرين؟
بعد ما تقدم من أحكام السفر، وما فيه من فوائد ومتاعب، أشير على كل مسلم أن لا يعزم على السفر إذا لم تجدَّ له مصلحة معتبرة، كطلب العلم، أو التجارة، أو التطبب، أو طلب الرزق إذا ضاق عليه في بلده، أو ما أشبه ذلك، وذلك لما في السفر من متاعب وعقبات ومخاطر. فإذا جدت له مصلحة من ذلك، فعليه أن يستعد له، متحليا بما يستطيع من آدابه السابقة، مع دعائي لجميع المسافرين بالسلامة في الذهاب والإياب، وموفور الصحة والعافية والسلامة.
وفي ختام هذا اللقاء المبارك بإذن الله تعالى، نشكر باسمكم فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الحجي الكردي - الخبير في الموسوعة الفقهية الكويتية وعضو هيئة الفتوى بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت.
وصلى اللهم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان وهدى إلى يوم الدين.