النسخ في التشريع الإسلامي
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فالنسخ في لغة العرب يطلق على معنيين اثنين، أحدهما إزالة الشيء وإعدامه، ومنه قوله تعالى: )وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الحج:52)، والآخر: نقل الشيء وتحويله، وإليه أشار القرآن الكريم بقوله سبحانه: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجاثـية:29).
والنسخ في اصطلاح العلماء: (رفع الحكم الشرعي بديل شرعي متأخر عنه).
وقد قرر الفقهاء أن للنسخ أركانا أربعة، هي:
أولا)) أن يكون المنسوخ حكما شرعيا، فلا يأتي النسخ على الأخبار، لأن النسخ شرع للتدرج في التشريع ورفع الحرج عن الأمة، وهذا لا يتأتى في الأخبار، لأن في نسخ الأخبار الحكم على الخبر السابق بالكذب، وهو محال على الله تعالى.
ثانيا)) أن يكون النسخ بدليل شرعي معتبر، وهو نص من القرآن الكريم، أو حديث من السنة الشريفة، لأن الناسخ هو الله سبحانه وتعالى وحده، ولا يملك أحد غيره النسخ، لأن النسخ تشريع، والمشرع هو الله سبحانه وتعالى وحده، لقوله سبحانه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (يوسف: من الآية40)، فلا يملك نسخه غيره، ولما كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم موحى له بها من الله تعالى، لقوله جل من قائل: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:3-4)، كان له النسخ بالسنة الشريفة بأمر الله تعالى.
ثالثا)) أن يكون الدليل الرافع للحكم متراخيا عن دليل الحكم الأول وغير متصل به، كاتصال القيد بالمقيَّد، والتوقيت بالموقَّت، لأن النسخ للتغيير، ولا يكون التغيير للشيء إلا بعد وجوده مسبقا.
رابعا)) أن يكون بين الدليلين المتناسخين تعارض حقيقي، فإذا لم يكن بينهما تعارض حقيقي عمل بهما معا.
وقريب من النسخ التخصيص، إلا أن بينهما فروقا، أهمها أن النسخ إلغاء للحكم بالكلية، والتخصيص إلغاء بعض مشمولات العام فقط، دون إلغائه كله.
وقد أجمع المسلمون على مشروعية النسخ ووقوعه فعلا في التشريع الإسلامي، وأجمعوا على أن القرآن ينسخ القرآن، وأن السنة تنسخ السنة، وذهب الجمهور منهم إلى أن القرآن ينسخ القرآن والسنة، والسنة تنسخ القرآن والسنة أيضا، لأن كليهما وحي الله تعالى، القرآن وحي الله تعالى المتلو، والسنة وحي الله تعالى غير المتلو، لقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:3-4) .
وأدلة النسخ في القرآن الكريم والسنة المطهرة كثيرة، من ذلك قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:106) ، وقوله تعالى: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد:39)، وقوله سبحانه: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (النحل:101)، وقوله سبحانه: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً) (النساء:160).
والنسخ في القرآن الكريم إما أن يكون نسخا للتلاوة والحكم معا، أو نسخا للحكم دون التلاوة، أو نسخا للتلاوة دون الحكم.
ومن أمثلة نسخ الحكم مع التلاوة، قول السيدة عائشة أم المؤمنين: (كان فيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ) رواه مسلم، أي لم ينس الناس بعد تلاوة هذه الآيات الكريمة رغم عدم وجودها الآن في المصحف الشريف، لقرب نسخها من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن أمثلة نسخ الحكم دون التلاوة قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المجادلة:12) هي منسوخة بقوله سبحانه: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المجادلة:13).
وأما نسخ التلاوة دون الحكم، فمنه ما روي عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب y أن كلا منهما قال: (لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ مَا أَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، أَلا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ إِذَا أُحْصِنَ الرَّجُلُ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ حَمْلٌ أَوْ اعْتِرَافٌ، وَقَدْ قَرَأْتُهَا: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ) رواه ابن ماجه ومالك والدارمي وغيرهم.
والمصحف الشريف الذي يضم كل آيات القرآن الكريم كل لا يتجزأ، ولا يجوز حذف أي آية كريمة منه، ولا كلمة واحدة، بل ولا حرف واحد، ولا يجوز تغيير حركة من حركاته، لأنه وحي الله تعالى، تلقاه كله كما هو عليه الحال الآن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن سيدنا جبريل عليه السلام، عن رب العزة جل جلاله، وقد تناقله الصحابة الكرام من فم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة وكتابة بالتلقين المباشر، بتواتر عشرات الألوف عن أمثالهم عبر العصور، فقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه آية كريمة أو مجموعة آيات يدعو كتبة الوحي، وهم جماعة من علماء الصحابة وأمنائهم، فيمليها عليهم، ويسمعها منه العشرات والمئات من الصخابة الكرام، في إمامته لهم في الصلاة الجهرية، وفي مواعظه صلى الله عليه وسلم لهم، فيحفظونها، وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر تلاوة القرآن تبركا به، وتفهما لأحكامه، وخشية أن ينسى منه شيئا، حتى جهد لذلك جهدا كبيرا، فخفف الله سبحانه وتعالى عنه، بقوله: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (القيامة:16-19) ولما خاف النبي صلى الله عليه وسلم على ضياع جزء من القرآن الكريم -من شدة حرصه على بقاء القرآن الكريم في حياته وبعد مماته كاملا غير منقوص- طمأنه الله العلي القدير على ذلك بقوله سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)، عندها هدأت نفس النبي صلى الله عليه وسلم وارتياح من عناء الخوف على القرآن الكريم من أن يضيع منه شيء، أو ينسى منه شيء.
وقد أجمعت الأمة على أن كل آية أو كلمة أو حرف أو حركة من القرآن الكريم هي قرآن كريم، وإخفاؤها أو حذفها أو إنكارها مخالفة كبيرة لتعاليم القرآن الكريم والسنة المطهرة، وقد نفذ الله سبحانه وعده للمؤمنين بحفظ كتابه الكريم عبير العصور، فلم يدخل القرآن الكريم زغل ولا حذف ولا ولا تغيير، رغم توزع نسخه في الآفاق وبين العدو والصديق، وكلما حدثت إنسانا نفسه الخبيثة باللعب في ذلك كشفها الله تعالى وخيب أملها وأبطلها، والتاريخ شاهد على ذلك، قال تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف:8).
ثم إن أي بشر في الدنيا يستطيع التطاول على الذات الإلهية، فيحذف من كلامه، أو أسمائه الحسنى، أو يضيف إليها، وهو من مخلوقات الله تعالى التي إذا أراد سبحانه أن يهلكها لم يمنعه من ذلك أحد، قال سبحانه: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الأنبياء:23)..
والحمد لله رب العالمين.
الخميس 18 ذو الحجة 1428هـ و 27/12/2007م
أ.د.أحمد الحجي الكردي
خبير في الموسوعة الفقهية
وعضو هيئة الفتوى في دولة الكويت