2006-12-09 • فتوى رقم 9345
السلام عليكم
كيف حالك يا شيخي العزيز:
ورد في صحيح البخاري الحديث التالي:
(5104) ـ حدثنا محمود، حدثنا أبو أسامة، حدثنا هشام، قال: أخبرني أبي، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: تزوجني الزبير، وما له في الأرض من مال ولا مملوك، ولا شيء غير ناضح وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء، وأخرز غربه وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يوما والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ثم قال: "إخ إخ" ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب، فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني. رواه البخاري.
أرجو من فضيلتك التكرم علي بالإجابة على الأسئلة التالية:
1- هل من المعقول أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للسيدة أسماء أن تصعد خلفه – حسب فهمها-، وهو كما نعلم لم تمس يده المباركة يد إمراة لا تحل له؟
2- على فرض أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب من السيدة أسماء رضي الله عنها الصعود والركوب خلفه، فهل من المعقول أن ترفض هذه الصحابية إكرام الرسول صلى الله عليه وسلم لها؟
وهل من المعقول أن الصحابي الجليل الزبير بن العوام يغار على زوجته من الرسول صلى الله عليه وسلم؟
أرجو التفضل بشرح هذا الحديث، وما دلائله الفقهية.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فأسوق لك شرح الحديث من كتاب فتح الباري للإمام ابن حجر العسقلاني، ففيه إجابة عن تساؤلاتك بإذن الله:
قال ابن حجر: "قَوْله (حَدَّثَنِي مَحْمُود) هُوَ اِبْن غَيْلان الْمَرْوَزِيُّ. قَوْله (أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ أَسْمَاء) هِيَ أُمّه الْمُقَدَّم ذِكْرهَا قَبْل. قَوْله (تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْر) أَيْ اِبْن الْعَوَامّ (وَمَا لَهُ فِي الأَرْض مِنْ مَال وَلا مَمْلُوك وَلَا شَيْء غَيْر نَاضِح وَغَيْر فَرَسه) أَمَّا عَطْف الْمَمْلُوك عَلَى الْمَال فَعَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْمَالِ الإِبِل أَوْ الأَرَاضِي الَّتِي تُزْرَع، وَهُوَ اِسْتِعْمَال مَعْرُوف لِلْعَرَبِ يُطْلِقُونَ الْمَال عَلَى كُلّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُرَاد بِالْمَمْلُوكِ عَلَى هَذَا الرَّقِيق مِنْ الْعَبِيد وَالْإِمَاء، وَقَوْلهَا بَعْد ذَلِكَ" وَلا شَيْء" مِنْ عَطْف الْعَامّ عَلَى الْخَاصّ يَشْمَل كُلّ مَا يُتَمَلَّك أَوْ يُتَمَوَّل لَكِنَّ الظَّاهِر أَنَّهَا لَمْ تُرِدْ إِدْخَال مَا لا بُدّ لَهُ مِنْهُ مِنْ مَسْكَن وَمَلْبَس وَمَطْعَم وَرَأْس مَال تِجَارَة، وَدَلَّ سِيَاقهَا عَلَى أَنَّ الأَرْض الَّتِي يَأْتِي ذِكْرهَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَة لِلزُّبَيْرِ وَإِنَّمَا كَانَتْ إِقْطَاعًا، فَهُوَ يَمْلِك مَنْفَعَتهَا لا رَقَبَتهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تَسْتَثْنِهَا كَمَا اِسْتَثْنَتْ الْفَرَس وَالنَّاضِح، وَفِي اِسْتِثْنَائِهَا النَّاضِح وَالْفَرَس نَظَر اِسْتَشْكَلَهُ الداودي، لِأَنَّ تَزْوِيجهَا كَانَ بِمَكَّة قَبْل الْهِجْرَة، وَهَاجَرَتْ وَهِيَ حَامِل بِعَبْدِ اللَّه بْن الزُّبَيْر كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي كِتَاب الْهِجْرَة، وَالنَّاضِح وَهُوَ الْجَمَل الَّذِي يُسْقَى عَلَيْهِ الْمَاء إِنَّمَا حَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ الأَرْض الَّتِي أَقْطَعهَا، قَالَ الدَّاوُدِيّ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِمَكَّة فَرَس وَلَا نَاضِح، وَالْجَوَاب مَنْع هَذَا النَّفْي وَأَنَّهُ لا مَانِع أَنْ يَكُون الْفَرَس وَالْجَمَل كَانَا لَهُ بِمَكَّة قَبْل أَنْ يُهَاجِر، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَوْم بَدْر عَلَى فَرَس وَلَمْ يَكُنْ قَبْل بَدْر غَزْوَة حَصَلَتْ لَهُمْ مِنْهَا غَنِيمَة، وَالْجَمَل يَحْتَمِل أَنْ يَكُون كَانَ لَهُ بِمَكَّة وَلَمَّا قَدِمَ بِهِ الْمَدِينَة وَأُقْطِعَ الْأَرْض الْمَذْكُورَة أَعَدَّهُ لِسَقْيِهَا وَكَانَ يَنْتَفِع بِهِ قَبْل ذَلِكَ فِي غَيْر السَّقْي فَلَا إِشْكَال.
قَوْله (فَكُنْت أَعْلِف فَرَسه) زَادَ مُسْلِم عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي أُسَامَة "وَأَكْفِيه مُؤْنَته وَأَسُوسهُ وَأَدُقّ النَّوَى لِنَاضِحِهِ وَأَعْلِفهُ" وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيق اِبْن أَبِي مُلَيْكَة عَنْ أَسْمَاء "كُنْت أَخْدُم الزُّبَيْر خِدْمَة الْبَيْت وَكَانَ لَهُ فَرَس وَكُنْت أَسُوسهُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ خِدْمَته شَيْء أَشَدّ عَلَيَّ مِنْ سِيَاسَة الْفَرَس كُنْت أَحُشّ لَهُ وَأَقُوم عَلَيْهِ".
قَوْله (وَأَسْتَقِي الْمَاء) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلسَّرَخْسِيِّ "وَأَسْقِي" بِغَيْرِ مُثَنَّاة وَهُوَ عَلَى حَذْف الْمَفْعُول أَيْ وَأَسْقِي الْفَرَس أَوْ النَّاضِح الْمَاء، وَالْأَوَّل أَشْمَل مَعْنَى وَأَكْثَر فَائِدَة .
قَوْله (وَأَخْرِز) بِخَاءِ مُعْجَمَة ثُمَّ رَاءٍ ثُمَّ زَاي
(غَرْبه) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء بَعْدهَا مُوَحَّدَة هُوَ الدَّلْو .
قَوْله (وَأَعْجِن) أَيْ الدَّقِيق وَهُوَ يُؤَيِّد مَا حَمَلْنَا عَلَيْهِ الْمَال، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَاد نَفْي أَنْوَاع الْمَال لَانْتَفَى الدَّقِيق الَّذِي يُعْجَن، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ مُرَادهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيث الْهِجْرَة أَنَّ الزُّبَيْر لَاقَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْر رَاجِعًا مِنْ الشَّام بِتِجَارَةٍ وَأَنَّهُ كَسَاهُمَا ثِيَابًا.
قَوْله (وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِن أَخْبِز فَكَانَ يَخْبِز جَارَات لِي) فِي رِوَايَة مُسْلِم "فَكَانَ يَخْبِز لِي" وَهَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّ فِي كَلَامهَا شَيْئًا مَحْذُوفًا تَقْدِيره تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْر بِمَكَّة وَهُوَ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَة، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَة، وَكُنْت أَصْنَع كَذَا إِلَخْ ، لِأَنَّ النِّسْوَة مِنْ الْأَنْصَار إِنَّمَا جَاوَرْنَهَا بَعْد قُدُومهَا الْمَدِينَة قَطْعًا، وَكَذَلِكَ مَا سَيَأْتِي مِنْ حِكَايَة نَقْلِهَا النَّوَى مِنْ أَرْض الزُّبَيْر.
قَوْله (وَكُنَّ نِسْوَة صَدْقٍ) أَضَافَتْهُنَّ إِلَى الصِّدْق مُبَالَغَة فِي تَلَبُّسهنَّ بِهِ فِي حُسْن الْعِشْرَة وَالْوَفَاء بِالْعَهْدِ.
قَوْله (وَكُنْت أَنْقُل النَّوَى مِنْ أَرْض الزُّبَيْر الَّتِي أَقْطَعهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) تَقَدَّمَ فِي كِتَاب فَرْض الْخُمُس بَيَان حَال الْأَرْض الْمَذْكُورَة وَأَنَّهَا كَانَتْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله مِنْ أَمْوَال بَنِي النَّضِير، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَائِل قُدُومه الْمَدِينَة كَمَا تَقَدَّمَ بَيَان ذَلِكَ هُنَاكَ .
قَوْله (وَهِيَ مِنِّي) أَيْ مِنْ مَكَان سُكْنَاهَا.
قَوْله (فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ إِخْ إِخْ) بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَسُكُون الْخَاء، كَلِمَة تُقَال لِلْبَعِيرِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُنِيخهُ.
قَوْله (لِيَحْمِلنِي خَلْفه) كَأَنَّهَا فَهِمَتْ ذَلِكَ مِنْ قَرِينَة الْحَال، وَإِلّا فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يُرْكِبهَا وَمَا مَعَهَا وَيَرْكَب هُوَ شَيْئًاآخَر غَيْر ذَلِكَ.
قَوْله (فَاسْتَحْيَيْت أَنْ أَسِير مَعَ الرِّجَال)
هَذَا بَنَتْهُ عَلَى مَا فَهِمَتْهُ مِنْ الارْتِدَاف، وَإِلَّا فَعَلَى الاحْتِمَال الآخَر مَا تَتَعَيَّن الْمُرَافَقَة.
قَوْله (وَذَكَرْت الزُّبَيْر وَغَيْرَته، وَكَانَ أَغْيَر النَّاس) هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ عَلِمْته، أَيْ أَرَادَتْ تَفْضِيله عَلَى أَبْنَاء جِنْسه فِي ذَلِكَ، أَوْ "مِنْ" مُرَادَة، ثُمَّ رَأَيْتهَا ثَابِتَة فِي رِوَايَة الإِسْمَاعِيلِيّ وَلَفْظه "وَكَانَ مِنْ أَغْيَر النَّاس".
قَوْله (وَاللَّه لَحَمْلك النَّوَى عَلَى رَأْسك كَانَ أَشَدّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبك مَعَهُ) كَذَا لِلأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَة السَّرَخْسِيّ كَانَ أَشَدّ عَلَيْك وَسَقَطَتْ هَذِهِ اللَّفْظَة مِنْ رِوَايَة مُسْلِم، وَوَجْه الْمُفَاضَلَة الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الزُّبَيْر أَنَّ رُكُوبهَا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَنْشَأ مِنْهُ كَبِير أَمْر مِنْ الْغَيْرَة لأَنَّهَا أُخْت اِمْرَأَته، فَهِيَ فِي تِلْكَ الْحَالَة لا يَحِلّ لَهُ تَزْوِجهَا أَنْ لَوْ كَانَتْ خَلِيَّة مِنْ الزَّوْج، وَجَوَاز أَنْ يَقَع لَهَا مَا وَقَعَ لِزَيْنَب بِنْت جَحْش بَعِيد جِدًّا لأَنَّهُ يَزِيد عَلَيْهِ لُزُوم فِرَاقه لأُخْتِهَا، فَمَا بَقِيَ إِلّا اِحْتِمَال أَنْ يَقَع لَهَا مِنْ بَعْض الرِّجَال مُزَاحَمَة بِغَيْرِ قَصْد، وَأَنْ يَنْكَشِف مِنْهَا حَالَة السَّيْر مَا لا تُرِيد اِنْكِشَافه وَنَحْو ذَلِك، وَهَذَا كُلّه أَخَفّ مِمَّا تَحَقَّقَ مِنْ تَبَذُّلهَا بِحَمْلِ النَّوَى عَلَى رَأْسهَا مِنْ مَكَان بَعِيد لأَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّم خِسَّة النَّفْس وَدَنَاءَة الْهِمَّة وَقِلَّة الْغَيْرَة وَلَكِنْ كَانَ السَّبَب الْحَامِل عَلَى الصَّبْر عَلَى ذَلِكَ شَغْل زَوْجهَا وَأَبِيهَا بِالْجِهَادِ وَغَيْره مِمَّا يَأْمُرهُمْ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقِيمهُمْ فِيهِ، وَكَانُوا لا يَتَفَرَّغُونَ لِلْقِيَامِ بِأُمُورِ الْبَيْت بِأَنْ يَتَعَاطَوْا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلِضِيقِ مَا بِأَيْدِيهِمْ عَلَى اِسْتِخْدَام مَنْ يَقُوم بِذَلِكَ عَنْهُمْ، فَانْحَصَرَ الأَمْر فِي نِسَائِهِمْ فَكُنَّ يَكْفِينَهُمْ مُؤْنَة الْمَنْزِل وَمَنْ فِيهِ لِيَتَوَفَّرُوا هُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنْ نَصْر الإِسْلام مَعَ مَا يَنْضَمّ إِلَى ذَلِكَ مِنْ الْعَادَة الْمَانِعَة مِنْ تَسْمِيَة ذَلِكَ عَارًا مَحْضًا.
قَوْله (حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْر بِخَادِمٍ تَكْفِينِي سِيَاسَة الْفَرَس فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي)
فِي رِوَايَة مُسْلِم "فَكَفَتْنِي" وَهِيَ أَوْجَهُ، لأَنَّ الأُولَى تَقْتَضِي أَنَّهُ أَرْسَلَهَا لِذَلِكَ خَاصَّة، بِخِلافِ رِوَايَة مُسْلِم وَقَدْ وَقَعَ عِنْده فِي رِوَايَة اِبْن أَبِي مُلَيْكَة "جَاءَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْي فَأَعْطَاهَا خَادِمًا، قَالَتْ كَفَتْنِي سِيَاسَة الْفَرَس فَأَلْقَتْ عَنِّي مُؤْنَته" وَيُجْمَع بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ السَّبْي لَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى أَبَا بَكْر مِنْهُ خَادِمًا لِيُرْسِلهُ إِلَى اِبْنَته أَسْمَاء فَصَدَقَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُعْطِي، وَلَكِنْ وَصَلَ ذَلِكَ إِلَيْهَا بِوَاسِطَةٍ. وَوَقَعَ عِنْده فِي هَذِهِ الرِّوَايَة أَنَّهَا بَاعَتْهَا بَعْد ذَلِكَ وَتَصَدَّقَتْ بِثَمَنِهَا، وَهُوَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهَا اِسْتَغْنَتْ عَنْهَا بِغَيْرِهَا.
وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْقِصَّة عَلَى أَنَّ عَلَى الْمَرْأَة الْقِيَام بِجَمِيعِ مَا يَحْتَاج إِلَيْهِ زَوْجهَا مِنْ الْخِدْمَة، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو ثَوْر، وَحَمَلَهُ الْبَاقُونَ عَلَى أَنَّهَا تَطَوَّعَتْ بِذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لازِمًا، أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُهَلَّب وَغَيْره.
وَالَّذِي يَظْهَر أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَة وَأَمْثَالهَا كَانَتْ فِي حَال ضَرُورَة كَمَا تَقَدَّمَ فَلا يَطَّرِد الْحُكْم فِي غَيْرهَا مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِثْل حَالهمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فَاطِمَة سَيِّدَة نِسَاء الْعَالَمِينَ شَكَتْ مَا تَلْقَى يَدَاهَا مِنْ الرَّحَى وَسَأَلَتْ أَبَاهَا خَادِمًا فَدَلَّهَا عَلَى خَيْر مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ ذِكْر اللَّه تَعَالَى، وَالَّذِي يَتَرَجَّح حَمْل الأَمْر فِي ذَلِكَ عَلَى عَوَائِد الْبِلاد فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَة فِي هَذَا الْبَاب، قَالَ الْمُهَلَّب: وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْأَة الشَّرِيفَة إِذَا تَطَوَّعَتْ بِخِدْمَةِ زَوْجهَا بِشَيْءٍ لا يَلْزَمهَا لَمْ يُنْكِر عَلَيْهَا ذَلِكَ أَب وَلا سُلْطَان، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى مَا أَصْله مِنْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَطَوُّعًا، وَلِخَصْمِهِ أَنْ يَعْكِس فَيَقُول لَوْ لَمْ يَكُنْ لازِمًا مَا سَكَتَ أَبُوهَا مَثَلا عَلَى ذَلِكَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّة عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا، وَلا أَقَرَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ مَعَ عَظَمَة الصِّدِّيق عِنْده؛ قَالَ: وَفِيهِ جَوَاز اِرْتِدَاف الْمَرْأَة خَلْف الرَّجُل فِي مَوْكِب الرِّجَال، قَالَ: وَلَيْسَ فِي الْحَدِيث أَنَّهَا اِسْتَتَرَتْ وَلا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا بِذَلِكَ، فَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّ الْحِجَاب إِنَّمَا هُوَ فِي حَقّ أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة ا هـ. وَالَّذِي يَظْهَر أَنَّ الْقِصَّة كَانَتْ قَبْل نُزُول الْحِجَاب وَمَشْرُوعِيَّته، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَة كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِير سُورَة النُّور "لَمَّا نَزَلَتْ (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبهنَّ) أَخَذْنَ أُزُرهنَّ مِنْ قِبَلَ الْحَوَاشِي فَشَقَقْنَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا" وَلَمْ تَزَلْ عَادَة النِّسَاء قَدِيمًا وَحَدِيثًا يَسْتُرْنَ وُجُوههنَّ عَنْ الأَجَانِب، وَالَّذِي ذَكَرَ عِيَاض أَنَّ الَّذِي اُخْتُصَّ بِهِ أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ سِتْر شُخُوصهنَّ زِيَادَة عَلَى سِتْر أَجْسَامهنَّ، وَقَدْ ذَكَرْت الْبَحْث مَعَهُ فِي ذَلِكَ فِي غَيْر هَذَا الْمَوْضِع. قَالَ الْمُهَلَّب: وَفِيهِ غَيْرَة الرَّجُل عِنْد اِبْتِذَال أَهْله فِيمَا يَشُقّ مِنْ الْخِدْمَة وَأَنَفَة نَفْسه مِنْ ذَلِكَ لا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ ذَات حَسَب اِنْتَهَى. وَفِيهِ مَنْقَبَة لأَسْمَاء وَلِلزُّبَيْرِ وَلأَبِي بَكْر وَلِنِسَاءِ الأَنْصَار".
واسأل الله لكم التوفيق.
والله تعالى أعلم.