الأخت الفاضلة ……….. المحرر في جريدة ………….
السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فجواب على سؤالك حول ماهية الغيرة وحكمها الشرعي من وجهة نظر الإسلام، أوافيك بما يلي:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
الغَيرة في اللغة والعرف مشتقة من تغير القلب وهيجان الغضب، بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، يقال غار الرجل على امرأته من فلان، وهي غارت عليه من فلانة، إذا أنف أحدهما من الحمية وكره شركة الغير في حقه فيه.
والغيرة غريزة بشرية، وانفعال نفسي، أودعها الله تعالى في الإنسان، فتبرز كلما أحس شركة الغير في حقه بلا اختيار منه، فيندفع نتيجة ذلك إلى التصرف بما يمليه موجبها.
وتختلف أحكام الغيرة شرعا باختلاف المغار عليه، والتصرف الناتج عن الغيرة، وعليه، فمنها المستحسن أو الواجب، ومنها المستكره أو المحرم.
فمن الغيرة المستحسنة الغيرة والحمية إذا هتكت حرمات الله تعالى، فإذا ارتُكب المحرم أمام المسلم غار على حق الله تعالى في ذلك، واندفع تلقائيا، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم.
وأكثر الناس غيرة على دين الله تعالى وحرماته سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما روته عائشة رضي الله عنها قالت: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء يؤتي إليه حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم لله) رواه البخاري.
ومن الغيرة المحمودة الغيرة على حقوق الآدميين التي أقرها الشرع إذا انتهكت أو ضُيعت أو اعتدي عليها، وقد أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم الغيرة لنفسه ولله تعالى عندما تنتهك الحرمات أو تُضيَّع الحقوق المشروعة، فقد دخل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا أفعل لو رأيت رجلا عند امرأتي؟؟ فقام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقال: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتعجبون من غَيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني) رواه البخاري.
وقد قرر الفقهاء أن الذي لا يغار على عِرضه ودينه دَيُّوث، وهو أشد ما يرمى به الرجل من السوء، وهو من الكبائر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاقُّ لوالديه، والديُّوث ورَجِلَة النساء) حديث صحيح على شرط الشيخين، ورواه أحمد وغيره، وفي رواية للنسائي: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاقُّ لوالديه، والمرأة المترجِّلة، والديُّوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاقُّ لوالديه، والمدمن من الخمر، والمنَّان بما أعطى).
وغَيرة الزوجة على زوجها، وغيرة الزوج على زوجته مشروعة، ما دامت لم تتعد حدودها، فإذا تعدت الحدود أصبحت مرضا قبيحا، وعلَّة مدمرة، فقد ورد في الأثر أن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كانت تغار من سيرة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها كلما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وذكر مآثرها، فقد روى حميد عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض نسائه، فأرسلت إحدى النساء بصحفة فيها طعام مع خادم، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة، فانفلتت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارت أمُّكم، ثم حبس الخادم حتى أُتِي بصحفة من ثم التي هو في بيتها، فدفع الصَحْفَة الصحيحة إلى التي كُسرت صحفتها وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت) رواه البخاري.
يدل هذا الحديث الشريف على سعة صدر النبي صلى الله عليه وسلم وحلمه وحسن تصرفه مع مثل هذا النوع من الغَيرة التي تُغلب المرأة عليها، من غير إنكار.
وأما الغيرة على توافه الأمور، وبخاصة إذا تبع الغيرة تصرفات شائنة أو محرمة، فهي من الغيرة المذمومة والمحرَّمة، كالغيرة على القبيلة بغير حق، فإنها عصبية منتنة كما سماها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ثم كنا في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري يا للأنصار، وقال المهاجري يا للمهاجرين، فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية، قالوا يا رسول الله: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال دعوها فإنها منتنة، ومن ذلك الغيرة بين الضرتين، والغيرة بين الجارتين، وما إلى ذلك، بدون مبرر يدعو إليها، إلا الحقد والبغضاء، وبخاصة إذا تجاوزت حدودها إلى الأذي والإضرار.
والله تعالى أعلم.
الثلاثاء 28 صفر 1427هـ و 28/3/2006م
أ.د.أحمد الحجي الكـردي
خبير في الموسوعة الفقهية
وعضـو هيئـة الفتـوى