تغمر المسلمين هذه الأيام نفحات ربانية وفيوضات من رب العالمين في أفضل الأيام وهي الليالي العشر من ذي الحجة، أيام جعل الله العمل فيها أفضل الأعمال ، حتى الجهاد في سبيل الله ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إلا رجل خرج بماله ونفسه ولم يرجع بشيء منها) ، والأعمال الصالحات في هذه الأيام لغير الحاج ، كما هي للحاج ، لا يحرم منها أحد لمن استعد وشمر عن ساعده ..
حول هذه المعاني التقينا الأستاذ الدكتور أحمد الحجي الكردي .. الخبير بالموسوعة الفقهية الكويتية وعضو لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف؛ لنقف معه عدة وقفات حول هذه المعاني ...
بداية .. الدكتور أحمد الكردي ، حفظكم الله ، ماذا عن هذه الأيام الفاضلة من أيام الله تعالى؟
إن لله سبحانه وتعالى في الأزمنة والأمكنة خصائص خصها بها دون غيرها بفضائل وبركات خاصة بها ، فمن الأزمنة الأيام العشر الأولى من ذي الحجة، ويوم عرفة، ويوم الجمعة، ويوم عيد الفطر، ويوم عيد النحر، وأيام التشريق، والأيام الثلاثة البيض من كل شهر.
ومن الأمكنة المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وعرفات، ومزدلفة، ومنى، وبيوت الله تعالى في كل مكان، وهي المساجد.
وقد رتب الله تعالى في كل من هذه الأمكنة والأزمنة عبادات خاصة، فيها مزيد فضل وبركة.
1) فأما العشر الأوائل من ذي الحجة فقد أقسم الله تعالى بها فقال سبحانه: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) (الفجر:2)، واستن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين صيام هذه الأيام، لحديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً: (ما من أيّام العمل الصّالح فيها أحبّ إلى اللّه من هذه الأيّام - يعني أيّام العشر - قالوا: يا رسول اللّه ولا الجهاد في سبيل اللّه؟ قال: ولا الجهاد في سبيل اللّه، إلاّ رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء).
2) ومن الأيام الفاضلة أيضا يوم عرفة، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مزيد فضله، وحض على صيامه والدعاء فيه، ورغب في ذلك، فقد روى جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَل عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَمَا مِنْ يَوْمٍ أَفْضَل عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، يَنْزِل اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِأَهْل الأَْرْضِ أَهْل السَّمَاءِ فَيَقُول: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ، جَاؤُوا مِنْ كُل فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَلَمْ يَرَوْا عَذَابِي، فَلَمْ يَرَ يَوْمًا أَكْثَرَ عِتْقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ)
3) وأما يوم النحر فهو يوم العاشر من ذي الحجة، وسمي بذلك لما ينحر فيه من الأضاحي والهدي، ويمتد نحر الضحايا فيه إلى الأيام الثلاثة التي بعده، وقيل ليومين بعده فقط، لما يصح فيها من نحر الضحايا.
وذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِيَوْمِ النَّحْرِ فَضْلاً كَبِيرًا، لِمَا شُرِعَ فِيهِ مِنْ مَنَاسِكَ وَعِبَادَاتٍ، وَلِمَا يَحْفُل بِهِ مِنْ طَاعَاتٍ وَقُرُبَاتٍ.
وَمِنْ فَضْل يَوْمِ النَّحْرِ أَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ جَمْعٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَْكْبَرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ عِنْدَهُمْ بِيَوْمِ الْحَجِّ الأَْكْبَرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة:3).
وقد جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الشريف أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّها، فَقَال: (يوْمُ الْحَجِّ الأَْكْبَرِ يَوْمُ النَّحْر) رواه البخاري.
وذلك لأَِنَّ فِيهِ تَمَامَ الْحَجِّ وَمُعْظَمَ أَفْعَالِهِ.. مِنْ وُقُوفٍ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ليلة النحر، وَالدَفْعٍ مِنْهُ لِمِنًى بعد النزول من عرفة، وَرَمْيٍ الجمرات، وَنَحْرٍ الهدي، وَحَلْق الشعر بعد انتهاء الإحرامٍ، وَطَوَافِ الإِفَاضَةٍ، وَالرُجُوعٍ لِمِنًى لِلْمَبِيتِ بِهَا، وَلَيْسَ فِي غَيْرِهِ مِثْلُهُ. وتجب فيه صلاة العيد.
4) وأما أيّام التّشريق فهي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر، وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، وسمّيت بذلك لأنّ لحوم الأضاحيّ تشرق فيها، أي تقدّد في الشّمس ، وقد شرع الله تعالى فيها أحكاما وشعائر، من ذلك: المنع من صومها على وجه التحريم في قول بعض الفقهاء، وعلى الكراهة التحريمية في قول البعض، وذلك لأنها أيام فرح ومرح واحتفال ، وفيها ترمى الجمرات من الحجاج ، وفيها يكون طواف الزيارة للحجاج، ،وفيها يتم ذبح الهدي للحاج، والأضحيّة لغير الحاج ، وفيها التكبير بعد الصلوات منذ فجر يوم عرفة إلى عصر اليوم الثاني من أيام التشريق. وهو المسمى بتكبير التشريق.
وماذا ينبغي على المسلم أن يفعله في هذه الأيام العشر ؟
بداية ينبغي على المسلم أن يستقبل هذه الأيام العشر بتوبة نصوح لله عز وجل ، ثم يكثر من الأعمال الصالحة عموما ، ويكثر من كل ما من شأنه أن يكون من البر والتقوى ومن الأعمال ما ترضي الله عز و جل وقد ذكر السادة العلماء بعضا من الأعمال التي ينبغي على المسلم أن يكثر منها ، من هذه الأعمال على سبيل المثال وليس الحصر ما يلي :
1- الصيام :
فيسن للمسلم أن يصوم التسعة أيام الأولى من ذي الحجة .، وصيام يوم التاسع آكد لغير الحاج ؛ لأنه كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يكفر السنة الماضية والسنة القابلة) ، والنبي صلى الله عليه وسلم حث على العمل الصالح في هذه الأيام العشر ، والصيام من أفضل الأعمال، وقد اصطفاه الله تعالى لنفسه كما في الحديث القدسي : " قال الله: كل عمل بني آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي بـه "
2 - الإكثار من التحميد والتهليل والتكبير :
فيسن التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح أيام العشر . والجهر بذلك في المساجد والمنازل والطرقات وكل موضع يجوز فيه ذكر الله إظهاراً للعبادة ، وإعلاناً بتعظيم الله تعالى ، ويجهر به الرجال وتخفيه المرأة ، قال الله تعالى : ( ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) الحج/28 . وجمهور الفقهاء على أن الأيام المعلومات هي أيام العشر لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( الأيام المعلومات : أيام العشر )
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد ) ، وصفة التكبير : الله أكبر ، الله أكبر لا إله إلا الله ، والله أكبر ولله الحمد ، وهناك صفات أخرى .
والتكبير في هذا الزمان صار من السنن المهجورة ولاسيما في أول العشر فلا تكاد تسمعه إلا من القليل ، فينبغي الجهر به إحياء للسنة وتذكيراً للغافلين ، وقد ثبت أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
3 - إحياء ما اندثر من السنن أو كاد وفيه ثواب عظيم دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ) .
وماذا عن بعض الأعمال كذلك في هذه الأيام ؟
من الأعمال كذلك في هذه الأيام ما يلي :
1- الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى ودعائه وتلاوة القرآن الكريم
2 - الإكثار من صلاة النوافل لكونها من أفضل القُربات إلى الله تعالى
3 - ذبح الأضاحي لأنها من العبادات المشروعة التي يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى في يوم النحر أو خلال أيام التشريق .
4 - الإكثار من الصدقات المادية والمعنوية .
5 - قيام الليل لكونه من العبادات التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على المُحافظة عليها من غير إيجاب .
6 - أداء العمرة لما لها من الأجر العظيم ولاسيما في أشهر الحج .
7 - زيارة المسجد النبوي في المدينة المنورة، وهي من الأعمال الصالحة المُستحبة للمسلم.
وفي الختام نشكر باسمكم الأستاذ الدكتور/ أحمد الحجي الكردي ، الخبير بالموسوعة الفقهية الكويتية وعضو لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف؛ على هذه الوقفات حول العشر من ذي الحجة ، ونسال الله الكريم أن يكتبنا عنده في عباده الصالحين ، الذين أخذوا حظهم من البر والتقوى في هذه الأيام وصل اللهم على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .