الحج المبرور
الحج في اللغة القصد إلى مكان معظم، وفي اصطلاح الفقهاء زيارة بيت الله الحرام في أشهر الحج، بشروط وأركان معينة.
والحج ركن من أركان الإسلام، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ) متفق عليه.
والحج في حقيقته دورة تدريبية لابد للإنسان أن يخوضها في حياته ولو مرة واحدة، لتستقيم حياته على المنهج الرباني الذي خلق الله تعالى الإنسان عليه، حيث قال سبحانه: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران: من الآية79)، وليكون عابدا حقا لله تعالى، امتثالا لقوله سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات:56-58)، وقال جل من قائل: ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: من الآية97).
ولهذه الدورة برامج متعددة، ومناهج مختلفة، يؤدي كل منها مهمته في تربية النفس البشرية، وتطويعها لخالقها سبحانه، فتكون ربانية ومتعبدة مخلصة، وهذه البرامج ضرورية، فلولاها لخرجت النفس عن فطرتها، وتعالت على عبوديتها لله سبحانه، واستسلمت لشهواتها، فزلت قدمها، وانحرفت عن مسارها الصحيح إلى متاهات الضياع.
وأهم هذه الدروات التربوية الضرورية ما يلي:
1- الشعور الحق بالمساواة بين العباد أمام الخالق العظيم، فلا تفاوت بينهم بالأنساب، ولا بالمناصب، ولا بالمال، ولا بالجاه، ولا بالقوة، ولا بالجمال، ولا....، فهم سواء في كل شيء، لا يفرق بينهم، ولا يمايز بينهم، غير التقوى لله سبحانه، مصداقا لقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)، هذا الشعور صعب العثور عليه والتحلي به على كثير من الناس الذين حل التمايز في ربوعهم، وعاشوا عليه مدة طويلة في حياتهم، واستحال أن يتعالوا فوقه، أو أن يخالفوه، فيأتي الحج، فيجتمع البعيد والقريب، والصغير والكبير، والغني والفقير، والرئيس والمرؤوس، والأبيض والأسود، و... في مكان واحد، قاحل، لا ماء فيه ولا زرع ولا نبات، ولا ما يدعو للرفاه: (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) (إبراهيم: من الآية37)، لا يجمعهم فيه إلا حبهم لله تعالى، واعترافهم بربوبيته وقدرته وجبروته سبحانه، فيخضعون له جل جلاله، وتطمئن نفوسهم إليه، وإذا بهم يشعرون بأخوة لا يجدون مثلها في أيامهم الأولى، ولذة لم يكونوا يشعرون بها قبل ذلك في حياتهم الأولى، وصدق الله تعالى العظيم حيث يقول: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج:28).
2- الشعور بالانتماء لوحدة العالم الإسلامي، هذا الشعور جزء من إيماننا، أكده الله تعالى في كتابه الكريم حيث قال سبحانه: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92) ، وأكده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ) متفق عليه.
هذا الشعور هو الأساس في بناء الأمة الإسلامية، وهو سر قوتها وتفوقها على سائر أمم الأرض، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نلتمس العز بغيره) رواه ابن أبي شيبة.
ولكن الحياة بزحمتها كثيرا ما تنسي الناس هذا المعنى العالي، فيفرقهم المال، والجاه، والقوة، والسلطة... فينسوا هذا المعنى، فتضعف قواهم، وتخور عزائمهم، فيأتي الحج، فيعيد إليهم التذكير بهذا المعنى العظيم، ويحملهم عليه حملا، حيث يلتقي القريب بالبعيد، والعربي بالأعجمي، والجاهل بالعالم، والغني بالفقير .... في مكان واحد لا يرغب في الحج إليه أحد لغير مرضاة الله تعالى، وامتثال أوامره، والابتعاد عن نواهيه، فيعود إليهم هذا الشعور بهذا المعنى العظيم، الضروري لحمياتهم من شر أعدائهم، في داخل نفوسهم وفي خارجها.
3 – فطر الإنسان عل حب الذات، وحب المال، وحب الجاه، وحب التفوق على الآخرين، وهذا إذا ما استفحل وسار على غير روية أوقع النفس في الهاوية، وانحرف بها عن الطريق السوي إلى الطريق المعوج المهلك، ولا بد من التقويم فور الانحراف، والاعتدال فور الميلان، والتواضع فور التكبر.... فيأتي الحج دواء لهذا المرض الخطير، حيث يجتمع الناس جميعا على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ومللهم في صعيد واحد، يلهجون جميعا بذكر الله تعالى وحده، لا يرجون غير مرضاته، وقد هانت عليهم نفوسهم، وذل أمامهم كبرياؤهم، فلا يرى أحدهم على غيره أي ميزة، ولا أي ما يدعوا إلى التعالي عليه، فهم عندما يصلون يكونون إلى جانب بعضهم، وعندما يطوفون حول بيت الله تعالى يكونون إلى جانب بعضهم، وعندما يسعون بين الصفا والمروة لا تكاد تميز أحدهم عن غيره.... فيلتئم شملهم، وتتواضع نفوسهم، ويشعرون بمعاني الوحدة والمساواة التي يقل الشعور بها في غير هذا المكان.
4- التكافل بين أفراد المجتمع الإسلامي الكبير على بعد المسافات وتعدد المشارب واجب ديني، وضرورة إنسانية، ولا يجتمع شمل الأمة إلا إذا كان بينها تعاون تام، وتكافل كامل، فما من بلد إلا وقد يصيبها نكبات طبيعية كالزلازل، أو اجتماعية كالحروب والنزاعات، أو اقتصادية كالمجاعات ....وإذا لم يكن بين الأمة ترابط وتعاون وتآزر زلت قدمها، وخارت قواها، وربما اندثرت أو ضاعت، وحاشا لأمة الإسلام أن يصيبها شيء من ذلك، وهي خير أمة أخرجت للناس، لقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110)، ولهذا كان لا بد من رباط يربط جماعتها، ويلم شملها، ويؤلف بينها على بعد المسافات، ومن غير الحج يضم شمل الأمة جميعا؟ حيث يأتي أفراد من كل قوم أو بلد أو قرية، فيجتمعوا في مكان واحد لا يجمعهم فيه ظلال ولا جنات معروشات وغير معروشات، ولا ..... ولكن صحراء قاحلة لا يرغب فيها أحد لغير التجاوب مع نداء الله تعالى لعبادته وشكره على نعمه، ومعاهدته على لم الشمل، وضم القوى بعضها إلى بعض، وإعادة الوحدة واللحمة التي قد يكون أضعفها البعد ومشكلات الحياة، فترى الأمة بنوابها من كل مكان تجتمع وتتعاون بكل ما لديها من قوة، ماليا، وعلميا، وعسكريا أيضا، ومن لهذا الموضوع المهم غير الحج؟؟؟
وعلى ذلك فالحج دورة تدريبية على ضرورات حفظ الأمة أفرادا وجماعات، وليس في الدنيا تشريع يحمل هذا المعنى غير شريعة الإسلام التي نزل بها سيد خلق الله تعالى وخاتم رسله، سيدنا ومولانا وحبيب قلوبنا سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
هذا هو الحج، بمعناه العام، وأهدافه الأساسية، ولكنه بهذا المعاني وحدها ليس هو المطلوب شرعا، ولكن المطلوب هو الحج المبرور.
والحج المبرور هو الحج الذي يستوفي أركانه وشروطه وسننه وآدابه كلها، فلا يكون إلا من مال حلال، ولا يكون إلا بعد صفاء النية، وسلامة السريرة، وتصفية الحقوق بين الناس، وتأمين نفقات الأهل، والعزم على التحنث والتواضع والتعبد من غير مباهاة أو تكبر أو ترفع أو قصد إلى مصالح دنيوية، ومتطلبات تجارية، فلا يظلم الحاج أحدا، ولا يخاصم أحدا، ويسالم كل الناس، قال سبحانه: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ) (البقرة:197)، فإذا كان كذلك كان الحج مبرورا، وكان جزاء القائم به الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ) رواه البخاري، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ، قَالَ ثُمَّ مَاذَا، قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّه،ِ قَالَ ثُمَّ مَاذَا، قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ) رواه مسلم.
فنسأل الله تعالى أن يوفقنا، ويوفق المسلمين جميعا، إلى حج مبرور وسعي مشكور، وذنب مغفور.
والحمد لله رب العالمين.
الجمعة 15 شوال 1428هـ و 26/10/2007م
أ.د.أحمد الحجي الكردي
خبيـر فـي الموسوعة الفقهـية، وعضو هيـئة الفتوى
في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة الكويت