"الاختلافات داخل الدين" بوجه عام و"الاختلافات الفقهية" بوجه خاص من المسائل التي لا تتوارى عن أجندة الأمة الإسلامية في عالمنا المعاصر، فهذه المسألة التي توضع في الواجهة في أغلب الأوقات تحت عنوان "وحدة الأمة"، في الأصل يجب أن تكون موضوع نقاش في إطار آخر عندما تؤخذ ماهية الاختلاف بعين الاعتبار. لأننا عندما نقول الاختلافات داخل الدين لا نعني بها الاختلافات الفقهية فحسب بل نعنى الاختلافات التي تتعلق بالعقيدة أيضا. بيدَ أن تناول الاختلافين في نفس السياق ستعنى مخالفة لطبيعة الأشياء. إذ لا يخفى على أحد أنه هناك فرق جلي وعميق من حيث الماهية بين سؤال "ما هي صفات الإله الذي نؤمن به؟" وبين سؤال "على أي دليل نستند في عملنا؟".
دار الحكمة تترك الاختلافات التي تتعلق بالعقيدة وتحاول في هذه المرة أن تسلط الضوء على الاختلافات الفقهية.
ما المذهب، لماذا وكيف ظهرت المذاهب؟
وهل الاتباع لأحد المذاهب شرط لا بد منه أم يجوز العمل بأحكام المذاهب المختلفة في الأمور المختلفة؟
وهل يمكن لعوام الناس العمل بأحكام الكتاب والسنة مباشرة؟ وهل باب الاجتهاد مفتوح؟ وإذا كان مفتوحا فما هي شروط وأصول ولوجه؟ وإذا كان مغلقا فلماذا، ومتى أُغلق وبأيدي من؟ وهل يمكن إغلاق بابٍ فتحه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من طرف الأمة؟
هل السبب وراء واقع العالم الإسلامي اليوم هو عدم إعمال مؤسسة الاجتهاد كما ينبغي بوجه خاص ونظام أصول الفقه بوجه عام؟
هذا وما شابهه من إشارات الاستفهام من المواد الثابتة التي لا تغيب عن مجالس النقاش التي تتناول المذاهب الفقهية.
كجمعية دار الحكمة بوَّبنا الأسئلة التالية التي تُعبِّر عن قضيتنا الأساسية على النحو التالي وقدمناها إلى شيخنا الفاضل أ. د. أحمد الحجي الكردي:
س) كيف ظهرت المذاهب الفقهية؟
ج) المذاهب الفقهية هي اجتهادات علماء كبارا أتقياء في فهم نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة وما أجمعت عليه الأمة مما لم يرد فيه نص، والقياس عليها عند عدم النص على مسألة معينة، فإذا لم يوجد نص ولا قياس لجؤوا إلى بناء الحكم على المصلحة المعتبرة شرعا، وهو أمر دعت إليه ضرورة أن الناس يحتاجون إلى حكم الله تعالى في أعمالهم وتصرفاتهم وعقائدهم، وليسوا جميعا على مستوى مناسب من استنباط ذلك من نصوص القرآن والسنة، ومن هنا نعلم الأثر الكبير في توجيه الله تعالى لهم لسؤال أهل العلم عن ذلك، قال سبحانه: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
لم تظهر المذاهب الفقهية في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه المصدر الأساس الثر للأحكام الشرعية، يرجع إليه الصحابة الكرام كلما لزم الأمر، فلا حاجة لغيره.
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والتحاقه بالرفيق الأعلى كان الناس يرجعون إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونهم عن أمورهم ويأخذون الجواب، ولكن ذلك كان يحصل أحيانا، لأن معم المسلمين في ذلك الوقت ممن شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وعايشوه، وهم من العرب الأقحاح الذين يتقنون اللغة العربية التي نزل بها القرآن وجاءت بها السنة، فلا يحتاجون إلى السؤال إلا قليلا.
وفي عصر التابعين اشتدت الحاجة للسؤال، وذلك لكثرة الداخلين في الإسلام من غير العرب الأقحاح، وهم يحتاجون إلى السؤال لعدم قدرتهم على فهم دقيق لمعاني القرآن والسنة، فقامت لذلك المذاهب الفقهية التي انتشرت في أرجاء الدولة الإسلامية، يقودها علماء أفذاذ أتقياء متخصصون تفرغوا للعلم والفتيا، وقد كانوا كثيرين جدا، ثم توسعت دائرة الاجتهاد والمذاهب في القرون الثاني والثالث الهجري، ثم التف أفراد الأمة حول بعض هؤلاء الأئمة وانصرفوا من حول كثيرين لم ينالوا الشهرة الكبيرة، وأكثر المذاهب خلودا هي المذاهب الأربعة، مذاهب أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس الأصبحي، والشافعي محمد بن إدريس، وأحمد بن حنبل، وقد نالت هذه المذاهب الأربعة ثقة جميع المسلمين، فدرست ونقحت ودونت فيها الكتب والموسوعات، ونقلت لنا نقلا متواترا.
س) ما هي اللامذهبية؟ وما هي وجهة نظركم في القول بحرمة التقليد؟ ولماذا الانتساب إلى مذهب معين أمر لا بد منه؟ وإلى أي درجة يمكن لعامة المسلمين أن يعيشوا دينهم بدون الانتساب إلى مذهب معين؟ وما هو التلفيق بين المذاهب؟ وهل يمكن أن تبينوا لنا الحالات التي يجوز فيها التلفيق بأسبابه ودواعيه؟
ج) اللامذهبية معناها الامتناع عن الانتساب أو أخذ الأحكام الشرعية من أي مذهب فقهي، والاعتماد في أخذها مباشرة من المصادر التشريعية الإسلامية، وعلى رأسها القرآن الكريم والسنة المطهرة، ويسمى ذلك بالاجتهاد، ويقابله التقليد، أو التمذهب، وهو الانتساب أو الأخذ بمذهب فقهي معين من المذاهب الفقهية المعتمدة، وعدم الخروج عليه، وعلى رأسها المذاهب الأربعة المتقدمة.
وربما يختلف الناس في حكم الاجتهاد وحكم التقليد، فتجد البعض يدعو للاجتهاد في الأحكام ويحرِّم التقليد، والبعض الآخر يدعو للتقليد ويحرم الاجتهاد، وكلا الطرفين مخطئ ومجاف للحقيقة في تعميمه وإطلاقه، لأن في المسألة تفصيلا لا بد من الأخذ به.
فالاجتهاد واجب والتقليد حرام على من بلغ درجة الاجتهاد في الفقه، وهم العلماء الذين عرفوا نصوص القرآن الكريم ومعانيه، ونصوص السنة الشريفة ودرجة ثبوت كل حديث شريف ومعناه، ومواضع ما أجمع المسلمون عليه من الأحكام الشرعية فيما لم يرد فيه نص، ثم معرفة طريقة قياس الأحكام التي لم يرد فيها نص على الأحكام التي ورد فيها نص إذا اتحدت العلة بينهما، ثم معرفة ضوابط المصالح التي اعتمد المسلمون عليها، وبني عليها التشريع الإسلامي (حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله تعالى) وهو ما يكني عنه الفقهاء بضوابط الاجتهاد، وكل ذلك أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم عندما بعث معاذا إلى اليمن وسأله عما يقضي به، فقال له: (كَيْفَ تَقْضِى إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاء؟ قَالَ أَقْضِى بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِى كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ فِى كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِى وَلاَ آلُو. فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَدْرَهُ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِى رَسُولَ اللَّهِ) رواه أبو داود والنسائي وغيرهما.
والاجتهاد شرطه التقوى في الدين، والبعد عن المحرمات، والعلم بكتاب الله تعالى، ناسخه ومنسوخه، وعامه وخاصه و... والعلم بالسنة الشريفة صحيحها وضعيفها، وناسخها ومنسوخها، وعامها وخاصها و... والعلم بما أجمعت عليه الأمة مما لم يرد فيه نص شرعي، ومعرفة علل الأحكام للقياس عليها عند عدم النص والإجماع، والعلم بالمصالح المعتبرة في الشريعة ووضعها في مكانها من أحكام التشريع، ثم المعرفة الدقيقة باللغة العربية التي أنزل بها القرآن الكريم، قال سبحانه: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء:195)، وما سوى ذلك مما اشترطه الفقهاء للاجتهاد.
أما من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد فحرام عليه الاجتهاد، ويجب عليه التقليد للمجتهدين، لقوله تعالى: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل: من الآية43)، لأنه يحتاج إلى أن يكون عمله وفق شرع الله تعالى، ولا يستطيع ذلك إلا بسؤال المجتهدين، فيحب عليه ذلك، فيسألهم ويأخذ منهم مع الدليل إذا أمكنه ذلك، فإذا لم يكن من أهل فهم الأدلة لم يلزمه أخذ الدليل.
ولا بأس للمقلد بالتلفيق بين المذاهب المعتمدة إذا كان ممن يفهم الأدلة ويقومها، فيأخذ من كل مذهب ما يراه الأقوى دليلا في نظره، فإذا لم يكن ممن يفهم الدليل ويقومه فعليه أن يلتزم مذهبا معتمدا يرجحه ثم لا يخرج عنه إلى غيره، إلا في حالات الضرورة أو الحاجة الماسة أحيانا، وذلك خشية التناقض في العمل، والوصول إلى ما لم يقل به أحد.
ولا يجوز تقليد غير المجتهد من الفقهاء مهما علا قدره، إلا أن يخبر عن قول مجتهد، فيجوز.
والفقهاء عبر التاريخ الإسلامي كثيرون جدا، ولكن الذين بلغوا مرتبة الاجتهاد منهم قليلون، وهؤلاء القليلون منهم من نقلت مذاهبهم إلينا عبر التاريخ الطويل بدقة وإحكام وتواتر، لكثرة طلابهم والعناية بفقههم، وهؤلاء هم الأئمة الذين يجوز تقليدهم والأخذ عنهم، أما من ضاعت أقوالهم ولم تنقل إلينا بطريق متواتر، لقلة طلابهم أو لانصرافهم عنهم، فلا يجوز تقليدهم، لعدم الجزم بصحة ما نقل عنهم، وما نقل عنهم من أقوال متناثرة في بطون الكتب لا يمكن الوثوق به من حيث السند، ومن هؤلاء الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام في عصره، وكذلك الفقهاء الذين يشك في بلوغهم الاجتهاد على كثرة شهرتهم وعلو قدرهم، فلا يجوز تقليدهم في آرائهم، إلا ما نقلوه عن الأئمة المعتمدين، ومنهم ابن تيمية، ومن الفقهاء من بلغ الاجتهاد وتواترت أقواله وفتاواه، ولكنه مصاب بشذوذ يخالف فيه جماهير أهل العلم، كابن حزم الذي نفى القياس، وكل هؤلاء لا يجوز تقليدهم، ولا الاعتماد على مذاهبهم لما تقدم.
وقد اتفقت الأمة على بلوغ الأئمة الأربعة، أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل مرتبة الاجتهاد، ووصول آرائهم ومذاهبهم إلينا بطريق متواتر، نقلا عن طلابهم وطلاب طلابهم، وصنف في ذلك الكتب الكثيرة المطولة والمختصرة، مما يطمئن معه القلب إلى جواز تقليدهم وحدهم دون غيرهم، وهو ما اتجه إليه جماهير المسلمين سلفا وخلفا.
س) ما هو مصدر المزاعم التي تدعي أن المذاهب الفقهية الموجودة غير كافية في حل مشكلات القرن الواحد والعشرين؟ وهل أنها تستند إلى الواقع بوجه من الوجوه؟
ج) المذاهب الفقهية الأربعة المتقدمة واسعة جدا، تكاد لا ترى مسألة إلا ولها فيها حل، بل إن بعض هذه المذاهب استبقت عصرها بكثير، وقدر أئمتها مسائل افتراضية لم تحدث في عصرهم، ورسموا لها الحلول الشرعية، وكثر ذلك منهم حتى سماهم البعض بالأرأيتيين، من كثرة افتراضهم للمسائل الفقهية بقولهم: أرأيت لو كان.... ثم يبينون الحل المطلوب، ثم إن الفقهاء كانوا عندما يبينون الأحكام ويستدلون لها يضعون لذلك قواعد تعد مستنبتا طيبا لإنشاء أحكام شرعية لما يستجد من المسائل على وفقها، حتى أصبح علم القواعد الفقهية علما مستقلا بذاته عن علم الفروع الفقهية.
ومع ذلك لا يمكن لمدع أن يدعي أن المذاهب الأربعة استوعبت مسائل الفقه كلها، بما في ذلك جميع مسائل القرن الحادي والعشرين وما بعده، فهذه دعوى عريضة جدا لا يستساغ القول بها، وفي هذه الحال يمكن للعلماء المعاصرين ولو لم يبلغوا مرتبة الاجتهاد، أن يجتمعوا ويتداولوا في هذه المسائل المستجدة، ويرسموا لها الحلول على وفق قواعد الفقهاء المجتهدين المعتمدين السابقين، وهو ما يحصل في المجامع الفقهية اليوم، وهي كثيرة في عالمنا الإسلامي والحمد لله رب العالمين، منها مجمع الفقه الإسلامي في جدة، التابع لمنظمة العالم الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة، التابع لرابطة العالم الإسلامي، وهيئة الفتوى في دولة الكويت، التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ومجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف، في جمهورية مصر العربية، وغيرها.
وفي هذا المجال أحذر العلماء من التفرد بالفتوى في الأمور المستجدة قبل التداول الجماعي فيها، والاتفاق فيها على قول واحد جماعي، بعدا عن الخطأ، وبعدا عن الاختلاف الذي يفرق عناصر الأمة الواحدة.
س) هل السبب وراء واقع العالم الإسلامي اليوم هو كون باب الاجتهاد مغلقا كما يدعيه بعض الأواسط؟ ما رأيكم في المحاولات نحو تأسيس مناهج جديدة في الاجتهاد (أصول الفقه)؟
ج) باب الاجتهاد في الفقه لم يغلق، ولا يمكن لعالم أن يدعي إغلاقه أبدا، بل هو مفتوح لكل من يلج فيه بحقه، إلا أن الواقع أن المجتهدين فُقدوا منذ سنين طويلة، بل إن الاجتهاد بعد القرون الثلاثة الأولى توقف، لا لإغلاق باب الاجتهاد، بل لظروف كثيرة حالت دون وصول العلماء إلى مرتبة الاجتهاد في هذه القرون، ومن هنا صرح البعض بانغلاق باب الاجتهاد، والحقيقة أن المجتهدين مفقودون، وليس باب الاجتهاد مغلقا، والفارق بين الاثنين كبير، فلو وجد الآن مجتهد من درجة الأئمة الأربعة لما استطاع أحد أن يمنعه من الاجتهاد.
وأما علم أصول الفقه، فهو علم قديم قدم الفقه، وإن كان التأليف فيه لم ينتشر قبل القرن الثاني الهجري، فأول رسالة في الأصول وصلت إلينا كانت رسالة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، المتوفي في /204/ هـ، وهي مطبوعة، وربما كان هنالك رسالتان في علم الأصول أيضا لإمامي المذهب الحنفي، أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، ومحمد بن الحسن الشيباني، ولكنهما لم يصلا إلينا، واختفيا في ثنايا التاريخ، ثم كثر التأليف في علم أصول الفقه بعد ذلك، وصنفت فيه المصنفات الكثيرة، وأصبح علما يفرض نفسه على كل طالب علم، حتى قال البعض: (لا عبرة بفقه فقيه ليس أصوليا) وذلك لأهمية هذا العلم الذي يضبط قواعد الاجتهاد والاستنباط.
والله تعالى أعلم.
أ.د.أحمد الحجي الكردي
خبير في الموسوعة الفقهية
وعضو هيئة الفتوى في دولة الكويت